مقالات

انعقدت مؤخرًا في ألاسكا، قمة بين الرئيسين الأميركي والروسي في سياق دولي متشابك ومعقّد ولا يخلو من نذر انزلاقات بسبب ضيق هوامش التنازلات واكتساب المعارك صفة الوجودية، وهو ما جعل القمة محط أنظار العالم، ونتائجها محط انتظاره وترقبه.
وقد وقعت القمة إعلاميًّا وتحليليا في فخاخ المبالغات تارة، بتشبيهها بمؤتمر يالطا الشهير في العام 1945 والذي شهد تقاسم النفوذ بين القوى العظمى، وبين فخاخ التبسيط المخل بالركون لعوامل شخصية صورت ترامب ضعيفًا أو معجبًا بالرئيس بوتن، وكلّ هذا الهزل الذي لا يليق بالسياسة الدولية وإستراتيجيات القوى العظمى التي لا تدار بهذه التفاهات.
وواقع الأمر أن القمة وإن اتّخذت من أوكرانيا عنوانًا رئيسيًا، إلا أن جوهرها الإستراتيجي هو تدشين مسار جديد مفصلي يتخطّى الصراع الجيوسياسي في أوروبا إلى نطاق أوسع يضمّ غرب آسيا والقوقاز والمنطقة العربية وافريقيا، وله انعكاسات على جميع بؤر الصراع الدولي بما فيه القضية الفلسطينية والصراع بين قوى المقاومة مع العدوّ الصهيوني.
وإن جاز تشبيه القمة تاريخيًّا بمؤتمر شهير، فإن الأقرب كثيرًا تشبيهها بمؤتمر ميونيخ في العام 1938، والذي مارست فيه بريطانيا وفرنسا ضغطًا على تشيكوسلوفاكيا للتنازل عن إقليم السوديت لألمانيا النازية للتهدئة، وتجنبًا للتورط في حرب عالمية بسبب التزام فرنسا بمعاهدة دفاعية عن تشيكوسلوفاكيا، والتزام الاتحاد السوفيتي أيضًا في حال تدخلت فرنسا، واتجهت الأنظار لبريطانيا العظمى، والتي فضلت التهدئة.
وبالطبع لا يوجد تشبيه هنا لبوتين بالمانيا النازية، ولكن موضع الشاهد هو تخلي الغرب عن التزاماته ومعاهداته أمام القوّة ولتجنب التورط، لا سيما إن كانت المعاهدات مع دول ضعيفة تستخدم وظيفيًا كأوراق للتفاوض بين القوى الكبرى، وهو حال أوكرانيا التي تم توظيف نظامها لاحتواء روسيا ورأس حربة للتمدد الغربي.
وهو درس لكل الأنظمة التي تثق بالغرب وتستخدم وظيفيًّا لتحقيق أغراضه بمعزل عن مصالحها الوطنية، مثل الأنظمة الخليجية والعربية الأخرى التي تستخدم لحصار المقاومات والتضييق عليها.
وهنا نناقش باختصار القمة ونتائجها وتأثيراتها على المنطقة وملفات الصراع الدولي المتشابكة:
أولًا: الوضع السياسي والعسكري المحيط بالقمة:
عقدت القمة في ظل حرب ممتدة منذ أكثر من ثلاث سنوات، وبعد وصول الأوضاع على الأرض لسيطرة روسية تقدر بنحو 20% من أوكرانيا، تشمل لوغانسك، وأجزاء من دونيتسك وخيرسون وزابوريجيا، إضافة إلى ضم روسيا للقرم منذ العام 2014.
وهناك وضع سياسي متأزم بين أميركا والاتحاد الأوروبي وبريطانيا من جهة، وروسيا وحلفائها من جهة أخرى، وفي ظل تسليح ودعم عسكري ينذر بانزلاقات خطيرة بلحاظ أن جميع الأطراف من الدول النووية.
ورغم أن روسيا استطاعت التقدم على الأرض وفرض أوضاع جديدة، إلا أن الحرب استنزفتها كثيرًا وأثرت على قوتها ونفوذها في جبهات أخرى في "الشرق الأوسط" وفي محيطها الحيوي بالقوقاز واسيا الوسطى مما سبب اختراقات جيواستراتيجية، وكان آخرها الإعلان عن ممر زنغزور بين أرمينيا وآذربيجان.
كما تم استنزاف الموارد الأوروبية والأميركية بسبب الدعم المتواصل لأوكرانيا، ولكن المشكلة الأكبر كانت أميركية بسبب أزمة الذخائر والتزام أميركا بالدعم اللامحدود للعدو "الإسرائيلي" بشكل متزامن مع الحرب في أوكرانيا، وبسبب اعتماد الغرب على أميركا باعتبارها القوّة العظمى وقائد حلف الناتو والطرف الوحيد القادر على ردع روسيا.
وهنا انعقدت القمة في ظل معضلة كبيرة سببها وصول الأطراف لحالة من الانهاك والاستنزاف، وفي ذات الوقت عدم امتلاك هوامش للتنازلات، وهو ما يقود إلى أوضاع خطيرة إذا ما استمرت المعارك الصفرية لفترة أطول.
ثانيًا: أزمة الهيمنة الأميركية:
تمر الهيمنة الأميركية بأزمة كبرى مفادها عجز الموارد والأدوات عن الحفاظ على التمدد الامبراطوري الذي وصل ذروته مع انتهاء الحرب الباردة وسقوط الاتحاد السوفيتي، وهو ما يتجلى في الاداء الهزلي للرئيس ترامب وتضارب تصريحاته.
وربما تحاول النخبة الإستراتيجية أو الدولة العميقة إلصاق هذه الأزمة بشخصية جدلية مثل ترامب لإخفاء هذه الأزمة وملامحها.
وفي هذه الأزمة وغيرها من الأزمات بمنطقتنا، تتضح ملامح الأسلوب المراوغ الأميركي والمعتمد على الدبلوماسية القسرية بالتخويف والتهديد الأجوف، والذي يتراجع عند وجود الشجاعة والصمود.
فكما تراجع الأميركي مع اليمن وإيران، وبدت تصريحاته متراجعة في لبنان مع صمود خطاب المقاومة، فهو يتراجع مع روسيا، حيث هدّد ترامب قبل القمة روسيا بـ"عواقب وخيمة" إن لم توقف القتال.
بينما بعد القمة، بدأت أميركا في الضغط على أوكرانيا للتنازل عن أجزاء من دونباس، والتقى ترامب بزعماء أوروبا لإقناعهم بأن الحرب لن تنتهي إلا بتنازل أوكرانيا، وبأن هناك صفقة تتعلق بضمانات أمنية وتجميد لخطوط القتال قي خيرسون وزابوروجيا، وأن هناك إنجازًا أميركيًا بموافقة الروس على الضمانات، وحاولت أميركا تسويق إنجازات وهمية للقوة وللدفع نحو السلام!
ثالثًا: ضعف ثقة الحلفاء في أميركا
أوروبا لم تمرر هذا التراجع الأميركي، ولكنها لا تستطيع الفكاك من الاعتماد على أميركا بوضعها الراهن عسكريًّا واقتصاديًّا وبعد قطع جميع الحبال مع الروس، ومن ثمّ عادت للذهن الأوروبي ذكريات الحرب العالمية والتضحية بدول مثل تشيكوسلوفاكيا، وبدأت أصوات الاعتماد على الذات الأوروبية تتعالى من جديد، وربما يكون لذلك انعكاس على عودة التقارب مع الروس والصينيين تجنبا للفخاخ التاريخية.
كما أن بقية حلفاء أميركا على امتداد العالم يتأملون المشهد وينظرون بقلق لمتانة التحالف مع أميركا.
رابعًا: تدشين مسارات جديدة والانعكاس على المنطقة
بعد هذا التراجع الأميركي وبعد تنازلات روسية أيضًا ومرونة في القبول بضمانات أمنية لم تقبل بها روسيا مسبقًا، تم تدشين مسار روسي أميركي جديد يتميّز بالبراجماتية، وهو ما يشي بتسويات واحترام لمناطق النفوذ وفقًا للمستجدات، وهو ما قد يكون له انعكاسات على قضايا الأمة المركزية، ومن امثلتها:
- احترام الإنجازات العسكرية الروسية في مقابل الإنجازات الأميركية الصهيونية في المنطقة وخاصة في سورية.
- استغلال "إسرائيل" لمبدأ تنازل أوكرانيا عن الأراضي بالقوّة لتسويغ احتلالها ومحاولات تمددها بالمنطقة.
- محاولات أميركا مقايضة التراجع في التحالفات بتراجع مقابل في تحالفات روسيا مع الصين أو إيران.
ولكن وبالمقابل، فإن هناك فرصة كبرى لإيران وللمقاومة لإثبات جدوى الصمود وأن أميركا لا تحترم الا القوي ومن يختار المواجهة، وإثبات هشاشة تحالف أميركا مع الأنظمة الضعيفة والتابعة، وأن خيار المقاومة هو الخيار الوحيد والحتمي في عالم براجماتي لا يحترم القانون الدولي ولا يعترف إلا بالقوى، فما بالك والمقاومة تمتلك القوّة والحق والشرعية؟.