مقالات

يعد ملف تصدير واستيراد الغاز بين مصر والكيان "الإسرائيلي" من الملفات الجدلية والمثيرة للريبة، وهو ملف يعرض مصر للانتقاد في جميع حالاته، بداية من تصدير الغاز للكيان وإمداده بالطاقة، وصولًا للتحول العكسي المؤسف بتحول مصر إلى مستورد من الكيان وهو ما يدعم الاقتصاد الصهيوني.
وتزداد الإدانة مع حرب الإبادة والتهجير الصهيونية في غزّة، وما تم الإعلان عنه في آب/أغسطس الماضي من توسيع مصر لاتفاقية الاستيراد بشكل وصفه الجانب الصهيوني بأنه اتفاق تاريخي وأنه أكبر صفقة في تاريخ صادرات الكيان إلى مصر.
واللافت هنا هو ما تم تسريبه من رفض نتنياهو لتوسيع الاتفاقية وإصدار أوامر للمسؤولين بعدم اتّخاذ قرار بشأنها دون الرجوع إليه بسبب ما وصفه من سلوك مصري ينتهك اتفاقية "السلام" وخروقات وتعزيزات عسكرية للجيش المصري في سيناء.
وهنا يجب رصد عدة نقاط قبل تناول الملف ودلالاته ومحاولة تفسير إقدام مصر على هذه الخطوة وسط التصعيد "الإسرائيلي" والتجاهل التام للوساطات وما يتم تصديره من صورة لتوتر العلاقات المصرية الصهيونية، وكذلك محاولة لتفسير ما تسربه "إسرائيل" من رفض لتوسيع الاتفاقية.
وهذه النقاط يمكن رصدها بشكل مختصر تاليًا:
1 - تحولت ورقة الغاز من ورقة تفريط وتعاون تطبيعي ممقوت مع الكيان إلى ورقة ضغط "إسرائيلية" على مصر بسبب عجز ميزان الطاقة وارتهان مصر لاستيراد الغاز لسد فجوة العجز ويحاول الكيان استخدام الورقة لانتزاع المزيد من التنازلات والمزيد من الصمت والعجز أمام الخطط الصهيونية التي وصلت لمشارف الحدود المصرية وتشكّل تهديدًا لصلب الأمن القومي المصري بالحديث علنًا عن التهجير ومشروع "إسرائيل الكبرى".
2 - هناك ارتباك مصري في التعاطي مع الملف برمته وشرح تفاصيله ومبرراته وتشخيص المصلحة، ويسود تناقض صارخ بين المدافعين عن الاتفاقية وأنها تصب في الصالح المصري وبين استهانتهم بتلويح نتنياهو بتجميدها بدعوى أنه الخاسر وأن مصر لن تتأثر وتمتلك بدائل كثيرة، وهنا يقفز إلى الواجهة سؤال هام حول أسباب توجه مصر للاستيراد من الكيان في هذه الظروف الدقيقة رغم امتلاكه لبدائل أخرى؟!.
3 - الرفض الصهيوني أو على الأقل امتلاك المناورة بالتلويح برفض توسيع الاتفاق رغم الظروف الاقتصادية للكيان وتكاليف الحرب الضخمة ورغم تاريخية الصفقة وأهميتها البالغة لا بد من أن يدق جرس الإنذار داخل أروقة الأمن القومي المصرية، باعتبار أن هناك ما يحاك ضدّ النظام المصري وربما التخطيط لتوفير بديل له وأن الكيان على ارتباط بخطط لإحداث انقلاب دراماتيكي أو الدخول في معركة لتغيير الوضع الجيوسياسي وما يترتب عليه من منظومة اقتصادية جديدة لشرق المتوسط لا يكون النظام المصري أحد أطرافها.
وهنا لا بد من استعراض بعض الأرقام ورصد بعض الدلالات لتفسير الموقف المصري والصهيوني بشكل مختصر، عبر العناوين التالية:
تفاصيل توسيع الصفقة مؤخرًا ودلالاتها:
كشفت شركة "نيو ميد إنرجي" الشريك في حقل "ليفياثان" "الإسرائيلي"، عن توقيع تعديل جوهري على اتفاق تصدير الغاز الطبيعي إلى مصر، يشمل زيادة ضخمة في الكميات المتفق عليها، مع تمديد فترة التوريد حتّى عام 2040.
ويتفق الخبراء على أن طبيعة الاتفاق الذي أبرم أخيرًا غير معلومة، والمعلن عن الاتفاق فقط قيمته المادية التي تصل إلى 35 مليار دولار، وأنه يمتد إلى عام 2040، وأن الصفقات التي تعقد مع شركات القطاع الخاص تتهرب من كشف المعلومات الدقيقة لأنها غير ملزمة برلمانيًّا مثل الشركات الحكومية، كما أن هناك اتفاقًا على أن تثبيت السعر ينطوي على مخاطرة بسبب احتمالية انخفاض الأسعار السوقية وهو ما يشكّل مكسبًا للبائع "الإسرائيلي" وخسارة للمشتري المصري.
الأخطر من ذلك أن تمديد الاتفاقية للعام 2040 يعطي إشارة بشراكة إستراتيجية ويفقد مصر حتّى التلويح بأي مقاطعة أو أي ورقة ضغط مع الكيان مهما بلغت تجاوزات الكيان وهي إشارة إستراتيجية خاطئة تتناقض مع بيانات الإدانة المصرية والتي تبدو فارغة ومسرحية إذا ما قورنت بخطوة عملية وإجراء اقتصادي بهذا الحجم.
وقد وجه نتنياهو بعدم المضي في اتفاق الغاز الضخم مع مصر من دون موافقته الشخصية، تحت مزاعم حول "خروقات مصرية لاتفاقية السلام"، وفي آب/أغسطس الماضي، نشرت "إسرائيل هيوم" تقريرًا قالت فيه إن "إسرائيل" باتت تمتلك الآن نفوذًا كبيرًا على مصر، داعية إلى استخدام "هذه الورقة للضغط على مصر" بشأن سياساتها تجاه "إسرائيل".
كيف تحولت مصر من التصدير إلى الاستيراد؟
تحول مصر من مصدر للغاز إلى مستورد ومرتهن للضغط الخارجي بما فيه الضغط الصهيوني هو درس مستفاد لكل بلد لا تتبع نهج الاقتصاد المقاوم وترتهن للخارج ولا تعمل على بناء منظومة اقتصاد إنتاجية ومستقلة.
فقد تحوّلت مصر إلى نموذج لاقتصاد الريع وبيع الأصول واعتمدت بشكل مفرط على الاستثمارات الخارجية وتحكم شركات الطاقة الكبرى ولم تنجح في توفير موازنة بين الاستهلاك والإنتاج.
وقد فرّطت في كميات كبرى من الغاز بأسعار زهيدة عندما وقعت اتفاقية تصدير الغاز للكيان في العام 2005، والآن يبدو أنها تتّجه للخسارة بتثبيت سعر على مدى زمني طويل لا يراعي تطوّرات ومؤشرات السوق التي تشي بانخفاض محتمل للأسعار على خلفية زيادة الإنتاج العالمي.
ولم يكن تراجع الإنتاج في مصر مصحوبًا بتراجع في الاستهلاك، بل تزايدت فجوة عجز الطاقة، وهي مرشحة للزيادة خلال الفترة القادمة في ضوء استمرار حالة التوسع المنتظرة في مشروعات سياحية وعقارية لدول الخليج في مصر.
وكانت الكميات الهائلة من الغاز الطبيعي التي صدرتها مصر إلى أوروبا مع اندلاع الحرب في أوكرانيا من العوامل السلبية التي أدت إلى استنزاف للموارد الطبيعية في حقل ظهر، أو ما يُعرف بـ "الاستخدام الجائر"، مما ألحق أضرارًا بالغة بمستويات إنتاج هذا الحقل، ويضيف الخبراء لذلك أن عائدات الغاز المصدر إلى أوروبا لم تستخدم في تطوير الحقول، سواء حقل ظهر أو في غيره بسبب المتأخرات المستحقة على مصر للشركات المشغلة لمواقع الإنتاج، ما أدى إلى تراجع كبير في مستويات الإنتاج.
بدائل مصر:
إلى جانب الغاز "الإسرائيلي"، تقوم مصر أيضًا باستيراد الغاز الطبيعي المسال (LNG) من دول منها الولايات المتحدة وقطر، وتحاول عقد صفقات مع تركيا وروسيا، كما ذكرت شبكة "بلومبرغ" الاقتصادية أن شركة "تاج" الكندية للنفط والغاز الطبيعي بدأت استخدام تقنية "الحفر الأفقي" للمرة الأولى في مصر، وهي من أحدث تقنيات استخراج النفط والغاز الطبيعي، وقد تجعل تلك التقنية الحديثة من مصر واحدة من أكبر منتجي النفط والغاز الطبيعي في المنطقة، بعد أن جعلت من الولايات المتحدة مُصدِرًا أساسيًا لهذين النوعين من منتجات الطاقة.
والخلاصة، هي أن أسباب التعامل التطبيعي في ملف الغاز بين مصر والصهاينة بدأ مبكرًا في تفاهمات "كامب ديفيد" وأوراقها المتعلّقة بخلق مصالح متبادلة في مجال البترول والطاقة، وتطورت الأمور بشكل سياسي وليس اقتصادي كنوع من أنواع سياسة التطبيع والمهادنة من الحكومات المصرية المتعاقبة إلى أن وصلت الأمور لأزمة حقيقية وارتهان مصري للخارج في مجال الغاز حولها من دولة مصدرة إلى مستوردة، وتحاول مصر استرضاء الكيان بتمديد الاتفاقيات وزيادة عوائدها كنوع من الرشاوى لتخفيف التصعيد وعدم إحراج الدولة المصرية وأمنها القومي، ولكن الكيان الصهيوني يقرأ ذلك بأنها إشارات ضعف وإفلاس وبالتالي يضغط لانتزاع تنازلات كاملة، كما قد تكون هناك خطط مخفية للإطاحة بالنظام المصري برمته، وهو درس لكل من يفرط في أوراق القوّة أو يراهن على السلام والتطبيع أو على أميركا.