تحقيقات ومقابلات

هي اللحظة التي تكتمل فيها أعمق معاني الحب. عندما همس الشهيد يوسف بدّاح في إذن ابنه بأنّ اللقاء قد حان..!
حسن بدّاح الذي استشهد مع الأمين العام الراحل لحزب الله سماحة السيد هاشم صفي الدين، في غارة غادرة شنها العدوّ الصهيوني على الضاحية الجنوبية للعاصمة بيروت.. هناك حيث خمدت تلك الأنفاس الهادئة. الأحلام التي كانا ينسجانها معًا تحققت؛ وهما اللذان ردّدا في قلبهما دعاءً لا ينتهي.. أن ينالا الوسام الأعلى.
كان اللقاء بين الروحين الطاهرتين موعدًا إلهيًا، ختم حياة من الجهاد والعمل بصوت واحد ارتفع نحو السماء.
حسن الشاب الذي حمل السلاح، كان مشروع شهادة مكتمل الملامح منذ صغره؛ هو ابن الشهيد وسليل الشهداء وحامل الأمانة في زمن الأيتام. المقاومة، في استشهاده مع السيد هاشم، كتبت فصلًا جديدًا من فصول البطولة، وجسدت صورة الفداء المتكامل، حيث يلتقي الصف الأول من القادة الصف الأول من الأبناء الأوفياء على عتبة المجد الأبدي؛ في مشهد يجسد الوحدة في الدم والهدف، والرسالة أنّ المخلصين لا يموتون فرادى، بل يصعدون معًا حاملين لواء العزّة على طريق القدس.
حسن حين علم بخطر استهداف السيد هاشم أصرّ على البقاء معه..
في بيتٍ علّقت على جدرانه صور الشهداء، تقف الحاجة منى والدة الشهيد حسن وزوجة الشهيد يوسف أحمد بدّاح لتروي، لـ"موقع العهد الإخباري"، كيف خطّت عائلتها سطور المجد بدماء أبنائها، واحدًا تلو الآخر.
حسن ابن شهيد وسليل بيت قدّم القادة والأبناء الشهداء: أعمامه الشهيد القائد الحاج محمّد أحمد بدّاح (أبو حسن)، الشهيد حسن أحمد بدّاح، الشهيد حسين أحمد بدّاح الذي ارتقى مؤخرًا في غارة صهيونية استهدفت سيارته في بلدة تبنين الجنوبية.
تستعيد أمّ محمّد لحظة الفاجعة التي باغتت قلبها، وهي تشاهد التلفاز؛ كانت عيناها معلّقتين بأخبار استشهاد السيّد هاشم صفي الدين، فإذ بالمشاعر تجتاحها كطوفان لا يُردّ؛ تقول: "بصراحة، كنت مشغولة بالسيد أكتر من ابني، كأنه نسيت إنو حسن كان معه. بس لما أكّدوا استشهاد السيد، بهاللحظة قلت لأنه السيد استشهد، يعني حسن كمان استشهد".
الخبر جاءها عبر الهاتف، وأفراد عائلتها قربها بعدما نزحوا من بيتهم. ابنها استشهد مع القائد الذي أحبه، وارتضى أن يكون إلى جانبه في اللحظة التي يعلم أنها قد تكون الأخيرة.
"حزني عليه كبير؛ لأنه لم يعش حنان الأب، واستشهد يتيمًا. بس فخري فيه أكبر، لأنه ما خاف، وما تراجع، واختار حياته وخاتمته بذكاء. الشهادة هي موت الأذكياء، خصوصًا بوجه العدوّ الصهيوني"..
تقول أمّ الشهيد، وتضيف: "حسن كان يعلم بخطر استهداف السيد هاشم، ومع ذلك أصرّ على البقاء معه، ما تراجع، اختار المبيت الاستشهادي، وهذا دليل على التزامه بطريق الحق". وتتابع بفخر: "حسن نعمة من الله، ربيته على الإيمان، وربيت إخوته، وهو أيتام الشهيد وأمانته عندي، وقدّمت واحدًا منهم شهيدًا على طريق القدس. الحمد لله الذي اصطفاه، ونحسبه عند الله من الصالحين".
تختم أمّ الشهيد حديثها، فتقول: "حسن كان قطعة من قلبي، كان مؤنسي في سهراتي، يلي بيسأل عنّي كلّ لحظة، هو الممرض يلي ما يتركني وقت اتعب، هو يلي يقضيلي حاجتي من دون ما أطلب، اشتاق لصوته، لصورته، لصدى اسمه بيناتنا.. بس بقلّو: الله يسهل عليك، ورضا الله يسبق رضاي عليك، بيّض الله وجهك كما بيّضت وجهي عند جدّتي السيدة فاطمة (ع). هنيئًا لك جنان الله، ورزقني الله شفاعتك وشفاعة أهل البيت".
أخٌ وسندٌ ورسول خير
تتحدث ملاك شقيقة الشهيد حسن عن أخيها باشتياق وتقول: "كان أخي، وكان الصديق والسند والنور الذي لم ينطفئ على الرغم من الغياب". في ظلّ غياب الأب، أدى حسن دورًا يفوق سنّه"، وتضيف ملاك: "كبر حسن قبل أوانه، نضج بسرعة، كان واعيًا ومسؤولًا منذ الصغر، وكان حضوره في حياتي يعني الطمأنينة".
عن خصاله الحميدة تخبرنا ملاك: "درسنا معًا في جامعة الرسول (ص)، وهناك لمس الجميع خصاله النادرة، كان الأصدق بين الطلاب كلهم، يشهد له الجميع بنقاء النية، واتساع قلبه.. حتّى بعد أن عمل في الجامعة، لم يتغير، بل استغلّ علاقاته لخدمة الناس". وتتابع: "سخّر علاقاته الواسعة في الجامعة والمستشفى لخدمة الشباب ومساعدة الناس، من تأمين الوظائف إلى تقديم المساعدات مادية، وصولًا إلى أبسط الحاجات اليومية، وعلى الرغم من انشغاله وضيق وقته، كرّس جزءًا من حياته للعمل مع مؤسسة الشهيد؛ لأنه كان يعدّ أبناء الشهداء أمانة".
كانت صلة الرحم جزءًا من رسالته العائلية؛ فقد كان يصرّ على "جمعة" عائلية أسبوعية، خصوصًا في شهر رمضان. بالنسبة إليه، العائلة كانت خطًا أحمر.
هذا؛ وتميّز حسن بتواضعه الكبير ومراعاته الدقيقة لأحوال الناس: "كان يراعي ظروف الجيران، خصوصًا النازحين، في تفاصيل يومية بسيطة بس مهمّة. كان مسامحًا جدًا، لا يسيء الظن بأحد، يحمل الناس على سبعين محمل حسن. يسعى دائمًا إلى حل الخلافات بين الأصدقاء والمعارف". وفي عامه الأخير، بدا وكأنه يسابق الزمن: "ما كان يعطي نفسه وقتًا للراحة، كان وقته كله مخصص لخدمة الناس، كأنّه كان يعلم أنّ رحيله قريب".. كما تقول أخت الشهيد.
رفيق الروح
صديق الشهيد حسن يوسف بدّاح يستعيد تلك اللحظات الأخيرة معه، في روايةٍ تختلط فيها النبرة الهادئة بالرهبة الموجعة، فيقول: "قبل استشهاده بحوالي شهر، قال لي بكلّ سكينة: ما عليّ أي فرض صلاة قضاء، وأعطاني رموز هاتفه، وقال بهدوء: إذا استشهدت.. هاي الرموز".
لم تكن كلماته عابرة، بل كانت أشبه بوصية من يعرف طريقه جيدًا، ويمضي فيه بإيمان لا يتزعزع، "كان الأمر أكبر من مجرد رموز لهاتف، كان وداعًا صامتًا مليئًا بالرضا".
عن علاقته بالإمام الحسين، يقول صديقه: تلك العلاقة كانت دائمة الحضور في قلبه وسلوكه "زيارته للإمام الحسين كانت دليله، بوصلته في كلّ قرار، وكان يشعر أنّ ما يفعله جزء من هذا الولاء".
ويتحدث صديقه عن آخر ليلة له في بيروت، بعد الغارة التي اغتيل فيها القادة: "كنت معه. لم ألمح عليه قلقًا ولا خوفًا، بل توكّلًا نقيًا وصبرًا عجيبًا. كان كأنّه يتهيّأ لما يعلم أنه قادم.. كلّ همّه كان أن يُتم ما بقي من واجبه إلى جانب سماحة السيد هاشم".
لم يغِب حسن بعد استشهاده، كما يؤكد صديقه: "بقي من حسن الكثير.. بقي حضوره، بقيت روحه التي تحفّنا. أكثر ما تركه فينا هو إيثاره، خدمته الصادقة، عطاؤه الذي لا ينتظر مقابلًا. علّمنا حسن، من دون أن يقصد، أن الثبات على النهج هو الحياة الحقيقية، وأداء التكليف هو جوهر الطريق. كلّ تصرّف بسيط منه كان يحمل رسالة.. واليوم، في كلّ خطوة نخطوها، نشعر أنّ حسن ما يزال معنا، يذكّرنا بما يجب أن نكون عليه".
أستاذ الجامعة الذي طلّق الدنيا
حين يُسأل أحد أصدقاء الشهيد حسن عن أكثر ما يختصر سيرة هذا الشاب الهادئ، لا يتردد في القول: "الجملة الوحيدة التي يمكن قولها عن حسن، هي أنّه طلّق الدنيا لأجل الجهاد والمقاومة"، ويضيف: "حسن الأستاذ الجامعي ترك الوظيفة، وأقفل محلًا تجاريًا عمل على تطويره لأكثر من سنة ونصف، فقط لأنه وجد أول فرصة للالتحاق بركب المجاهدين".
يتحدث صديقه عن أمنية سكنت حسن طويلًا، وتحوّلت إلى دعاء دائم: "كان دائم التوق إلى الشهادة، يحمل رجاءً صادقًا بأن يُرزق هذا المقام، ولقاء طال انتظاره مع والده الشهيد، والذي لم يفارق تفكيره يومًا".