نقاط على الحروف

في لحظة واحدة، شهد ١٧ أيلول ٢٠٢٤ جريمة حرب غير مسبوقة: تفجير أجهزة "البيجرز". في ذلك اليوم الذي يحتفظ كلّ منّا بمشهد منه، أو بأثر، لم يكن من السهل فهم الحدث الفظيع الذي يدور أمام العيون: بدقائق معدودة، امتلأت الأمكنة بالجرحى، الإصابات بمعظمها في الوجه والأعين، وفي الكفوف. ببساطة، كانت الرسالة أشبه بلغمٍ انفجر في يد متلقّيه، ملبّي النداء. بعيدًا عن صدمة اللحظات الأولى، ووجع كلّ ما تلاها، يحيي أهل المقاومة وجرحى تلبية النداء ذكرى مرور العام الأوّل على جريمة البيجرز وأجهزة اللاسلكي، لا بالصبر على الجراح والتعافي منها فقط، بل بالتأكيد على مواصلة الطريق، طريق الشرفاء الأحرار، وبالقول لـ"الإسرائيلي" إنّك فعلت أقصى ما بوسِعك كي تخرجنا من دائرة العمل الذي يؤرقك ويهدّد وجودك، وفشلت، فقد "تعافَينا".
بدايةً، ليس مُستغربًا أن يرتكب الصهاينة فعلًا على هذا القدر من الجُبن المقترن بالحقد، فهذا ديدنهم وهذه عادتهم، وبالطبع لا ينتظر عاقلٌ أن يُدينَ العالم الغربيّ هذا الفعل الفاضح لكلّ أكاذيب التحضّر والإنسانية السائدة في الخطاب الحقوقي الغربيّ. وأيضًا، لا يمكن أن يتخيّل ذو حدّ أدنى من الإدراك أن تقوم الأدوات الأميركية في المنطقة باستنكار المجزرة. لقد أراد "الإسرائيليّ" وخلفه الغرب كلّه أن يقول من خلال المجزرة هذه "أنا المتفوّق ها هنا، أنا القادر على بترِ وجودكم وفعاليتكم وقتل روح القتال فيكم"، فأجابه أكثر من أربعة آلاف جريح: "تعافَينا..".
بالطبع، لا جدوى من مقاربة المجزرة، وكلّ مجزرة، من زاوية حقوقية وقانونية، فهي ليست المرّة الأولى التي يرتكب فيها الصهاينة ومن خلفهم ما يُعدّ خرقًا فاضحًا لجميع القوانين الدولية والأعراف الأممية. وليست أيضًا المرّة الأولى التي يصمت فيها عالم الشعارات الإنسانية والطروحات الحقوقية عن بشاعة ما جرى. وتجدر الإشارة إلى أنّ جريمة البيجرز لم تكن فقط جريمة حرب غير مسبوقة، إنّما هي أيضًا تهديد مباشر لجميع مستخدمي أجهزة الاتصالات حول العالم. لقد كشف الصهاينة عن إمكانية أن تتحوّل هذه الأجهزة إلى قنابل موقوتة، وبذلك تشكّل هذه السّابقة نوعًا من الرسالة الترهيبية لكلّ أهل الأرض، وتعبّر عن عنجهية الجبان الذي يقتل عن بُعد وبأسلوب قذرٍ وبتخطيط دقيق مسبق، من دون أن يتجرّأ على المواجهة والنّزال.
جيش قتلة الأطفال في غزّة، وقوّات النّخبة التي مُرّغ أنفها في تراب قرى الحافة في لبنان، والدوائر الاستيطانية التي تنهار كلَّما دوّى إنذار يبلغها بصاروخ آتٍ أو بحدث أمنيّ يجري التكتّم عليه، جميعهم، ومن خلال مجزرة "البيجرز"، فُضحوا بالعجز عن خوض القتال وجهًا لوجه. ورغم ذلك، تعاطوا مع نجاحهم في ارتكابها كإنجاز تاريخي يتباهون به، وهنّأهم عليها عالم "شرعات حقوق الإنسان" و"الديمقراطية" و"نشر السّلام"، وما "البيجرز" الذهبي الذي قدّمه نتنياهو لترامب سوى رمز يترجم حقيقة لا لبس فيها: هذا العالم المتوحّش المتباهي بجرائمه لا يمكن مواجهته بغير القوّة والسّلاح!.
١٧ أيلول، هو تاريخ يوثّق يومًا استخدم فيه الغرب كلّه، وليس فقط ربيبته "إسرائيل"، جهاز اتّصالات مدنيًّا يتواجد في كلّ البلاد ومع كلّ الفئات من أطباء ومسعفين وإطفائيين ومنقذين، وجعله أداة قتل عن بُعد. فعل ذلك بنيّة إرهابية بحتة، وبغرض تحويل كلّ من يفكّر في مواجهته إلى مشروع ضحيّة، ولكن جرت رياح أهل الحقّ بما يعاكس رغبات وأهداف شياطين الأرض كلّهم، فجرحى تلبية النداء لم يركنوا في خانة "الضحايا" للحظة ولم يتحوّلوا إلى دليل على قوّة "إسرائيل" كما تمنّى الفاعلون، بل إلى حكاية تقول للكيان المؤقّت وللعالم كلّه أن مهما بلغ مستوى إجرامه ونذالته، هو عاجز عن مسّ "الرّوح لي بتقاتل" بسوء أو بضعف. تعافى الجرحى، دخلوا التاريخ من بوابة الجرح المقدّس الذي يقوّي ويشدّ العزائم بدل أن يُضعِف ويهزم. "تعافَينا"، كي نكمل الدرب وكي تكون الجراح شاهدة على أرواح آمنت بالحقّ، وانتصرت!>
أمّا بعد، ارتكب الصهاينة المجزرة. صفّق لهم العالم. ومن لم يصفّق اكتفى بالصّمت متجاهلًا. وليس غريبًا أن يسقط هذا العالم كلّه عن صهوة شعاراته الكاذبة وإنسانيّته الزائفة في لحظة تتزامن مع صوت الإشعار في الجهاز المتفجّر، ولكن كان مؤسفًا أن تصمتَ أيضًا "دولتهم" لا عن حقّهم وحسب، بل حتّى عن موقف طبيعيّ كان ينبغي أن يُترجم إلى تحويل يوم ذكرى المجزرة إلى محطّة وطنيّة تشهد لهم أنّهم أبناء هذه الأرض الذين افتدوا شرفها بأعينهم، وإن لم يكونوا بحاجة لشهادة من أحد!