مقالات

يتحفّز الغرب المهيمن للاندفاع المطلق نحو إرساء "شرق أوسط جديد"، تتصدّره الولايات المتحدة الأميركيّة بيد "إسرائيليّة" تشكّل الأخيرة عصاه الغليظة بعد توسّع جغرافيّة الاحتلال نحو غزّة، طامحًا ببناء ناطحات السحاب و"ريفييرا الشرق الأوسط" على شواطئها بالمال الخليجيّ العربيّ، ويمتد هذا التوسّع من جانب آخر نحو جنوب لبنان وكذلك نحو جنوب سورية مع إنشاء مناطق معزولة فيهما، ليس من السلاح فحسب بل حتّى من سكانهما الأصليّين، وإعادة هندستها العمرانيّة وفق أغراضه الأمنيّة والاقتصاديّة، مما يعيد تشكيل جغرافيّتها البشريّة ووظائفها الحيويّة، ولا يتوقّف عند ذلك، بل يستكمل مسعاه التوسّعي تمهيدًا للسيطرة على "ممر داوود" الذي يصل إلى الفرات، ليعيد بسط نفوذه وتحكّمه بما يعيد إنتاج خطوته التالية نحو العراق والأردن.
ولأجل ذلك، وكشاهد أبرز، يستمر العدوان "الإسرائيلي" الهمجي الوحشي على الشعب الفلسطيني في غزّة، عبر جريمة القرن المستمرّة على مدى 706 أيام، مع ارتفاع حصيلة العدوان الإبادي إلى ما يزيد عن 64 ألفًا و871 شهيدًا و164 ألفا و610 جرحى منذ السابع من أكتوبر 2023 ولغاية ظهر الأحد 14 أيلول/سبتمبر 2025، من ضمنهم أكثر من 20 ألف طفل شهيد و12500 امرأة شهيدة، ومسح من السجل المدني ما لا يقل عن 2700 أسرة في قطاع غزّة. بينما يستمر التمادي العدواني على بقاع أخرى داخل فلسطين المحتلّة وخارجها، في الضفّة الغربية وسائر أنحاء القدس الشريف، فضلًا عمّا أحدثه ويحدثه من القتل اليوميّ في لبنان واليمن والمتقطّع في سورية حيث يرتفع عدّاد جرائم الاغتيال والاستهداف للشباب والمدنيّين يوميًّا، مضافًا إلى حملته العدوانيّة على إيران وهجماته العدوانيّة على كلّ من العراق وقطر.
دوافع وعوامل شخصيّة أم مصالح قوميّة عليا؟
ربّما تتداخل الدوافع الشخصيّة الذاتيّة لكل من ترامب وكوشنير وبلير ونتنياهو وآخرين، على سبيل المثال، باستحداث "ريفييرا الشرق الأوسط" على شواطئ غزّة والحدود اللبنانيّة الفلسطينيّة والتملّص من بعض "المحاكمات القانونيّة" عبر آلة القتل والتذرّع باستمرار القتال، ربما تتداخل تلك الدوافع على اختلافها مع الحوافز بل المآرب الموضوعيّة والطاغوتيّة للمصالح القوميّة العليا لإدارة الهيمنة والسيطرة الغربيّة في سياق الصراع العالميّ ومساراته المتعدّدة والمركّبة والمعقّدة؛ لكن المسائل دائمًا تحسم على أرضيّة النهم الاستحواذي بصيغتها الكبرى للإرادات العميقة النافذة داخل دوائر صناعة القرار وميزان قواها الضارب على حساب سطحية القراءة التي تنقبض إلى تحليل المجريات بتعليقها أو ترجيحها العامل الشخصيّ والنزوع الفردي هنا وهناك؛ فالفاعل المحدّد يعود إلى ديناميّات تقدير الموقف الأميركيّ وعلى هامشه دوائر التأثير الأقل نفوذًا ممن يدور في فلكه العام، وفي مقابل ذلك تتحرّك المصالح الموازية الكبرى لدول تبحث عن مكانتها الطليعية أو عن تعددية مراكز القوى العالميّة كالصين وروسيا، ما لم تبلغ درجة تعدديّة الأقطاب.
بينما تقف جبهة المقاومة بمكوّناتها واجتماعها السياسيّ المقاوم على حد النقيض والمواجهة للهيمنة الأميركيّة واحتلالاتها بصورة مستقلة بدرجة عالية وإن كانت متساندة على أرضية مشتركة تجمعها عقيدة المقاومة، وهي تعمد إلى استنزاف هذا التسلّط العالمي الغريب والأجنبي عن المنطقة وأهلها، وتوفّق بين أمنها القومي كجبهة مقاومة في مسار التبلور وبين المصالح الوطنيّة لكل مكوّن من مكوّناتها فتراعي خصوصيّاته، كما لا تقطع الوصل مع سائر الدول والقوى باستثناء الولايات المتحدة الأميركيّة والكيان "الإسرائيليّ" الغاصب، بمن فيها الدول التي تدور مدار العدو، بمقتضى الواقعيّة ولوازم الصراع. وهنا أيضًا تتفوّق المبادئ والمصالح العليا على حساب الرؤى والمصالح الشخصيّة للأفراد المؤثّرين في صدارة قراراتها بصورة كبيرة، وإن كان للفرد القائد ولايته الممأسسة على شرعية دينيّة أو فكرية منضبطة بمواصفات وقواعد، وعلى مشروعية تنظيميّة أو شعبيّة تحكمها أهداف وسياسات وآليات وتوازنات.
نعم، ترتفع أسهم الحسابات الشخصيّة وبصورة معكوسة تمامًا عند أغلب الحكّام العرب والمسلمين في منطقتنا على حساب المصالح الوطنيّة والقوميّة، لأن أغلب تلك السلطات مستمدّة من الرضا الخارجي لا من الإرادة الشعبيّة الداخليّة، ومن الميل إلى عدم مس المصالح والعلاقات الشخصيّة والعائليّة والطائفيّة والفئويّة والمناطقيّة والطبقيّة الضيّقة بسوء، ولذلك، تعوم تلك السلطات على خذلان القضايا والمصالح الحقيقية الكبرى لقاء الارتماء في حضن الطاعة المزيّف والذليل، وهو ما يعرف بولع "خضوع المهيمَن عليه أمام المهيمِن".
الحالة اللبنانيّة وجوهر الوطنيّة
في الحالة اللبنانيّة، يعاد تشكيل السلطة على هوى الرياح الإقليميّة والدوليّة، ويصاغ الخطاب الرئاسيّ على أنغام يستسيغها المهيمِن والمُحتل، وتصدر القررات بموجب تلك الإملاءات الأميركيّة الفظّة بما ينقلب طرح المشكلة اللبنانيّة -"الإسرائيليّة" إلى أزمة لبنانيّة - لبنانيّة، وتستنفر السلطة الرابعة بما يخدم حصرية الاستباحة وبسط سلطة السفارة الأميركيّة في بيروت على لبنان وجميع اللبنانيّين وتعميق التناقضات المجتمعيّة.
في الحالة اللبنانيّة، يستعمل مفهوم "الدولة" باختزالية إقصائيّة حادة لروح المواطنة، ويسمو النفور والتنفّر من حقوق المواطنين في الحماية والرعاية وحفظ السيادة، وتستعاد ثوابت العلاقة مع الاحتلال "الإسرائيلي" كأفق شعبوي لفخامة "الرئاسة"، يستثير العصبيات القاتلة من زمن الحرب الأهليّة وعلى توقيت الدم الفلسطينيّ في صبرا وشاتيلا بالتزامن مع حفلة الإبادة التي يتولاها أصدقاء البطولة في الإبادة والانقضاض على روح المقاومة، ويفرج عن العملاء بالمجّان قبل استعادة الأسرى، ويتم التهكم على إستراتيجية دفاعية تحمي الوطن والمواطن والدولة بأمن يرضاه المحتل والمهيمِن.
تغيب عن هذه السلطة كلّ خطابات الحوكمة ومناهضة الفساد، فضلًا عن الإجراءات الملموسة المأمولة لناشطي حركة 7 تشرين الأول 2019 الشهيرة، وتفشل في إعادة الإعمار وحفظ الأمن والأمان، وتمرّر سلّة قرارات وتعيينات في الأملاك البحرية وقطاع الاتّصالات وغيرها، وتجري تعديلات في المناهج التربويّة ربما تحاول فيها أن تنتقم من تاريخ مشرّف وتنفتح على شذوذ معولم.
نعم، الحق يقال، تنجح هذه السلطة، رئاسة وحكومة، في ترقيع الأوتستراد الدوليّ الساحليّ، كعلامة فارقة في العهد الجديد قوّته "التزفيت"، ربما كجزء من أحلام ربيع قديمة جديدة على مذبح إسناد العدوّ بمخطّطاته الكبرى، ولا بأس إن كان ضحيّة تلك الأحلام الإنسان والإنسانيّة والكرامة الوطنيّة الحقّة والقضية الفلسطينيّة العادلة.
لذا، إن مفتاح حفظ كرامة وسيادة واستقلال الأوطان في منطقتنا، لا يكون إلا برعاية الأمن القومي لجبهة المقاومة ومجتمعاتها، بعيدًا عن ضيق المصالح الشخصيّة، كممر إجباري يفرضه منطق الكرامة في مواجهة أطماع العدوّ وأفعاله، كخيار عقلاني واقعي فاعل، وكمدخل واعٍ وإرادي وطني حر، لصيانة المصالح الوطنية والقوميّة الكبرى، أما التقوقع في أدبيات "قوة لبنان في ضعفه"، وفي توسّل سد الذرائع والإصابة بداء إسهال التنازلات، لا يحفظ وطن ولا وحدة وطنية ولا تاريخ مشرّف، ولا يرقى إلى جوهر الوطنيّة، فالمقاومة هي الوطن.