مقالات

منذ أن وطئت قدماه أرض النجف الأشرف لدراسة العلوم الدينية في عام 1976، وبقي فيها أعوامًا قلائل قبل أن يغادرها إلى مدينة قم المقدسة في إيران، بسبب ضغوطات ومضايقات نظام حزب "البعث" حينذاك، تشكلت علاقة من نوع خاص بين الأمين العام السابق لحزب الله اللبناني الشهيد السيد حسن نصر الله من جهة، والعراق من جهة أخرى، متمثلًا بأوساطه الدينية الحوزوية والمرجعية، والأوساط الاجتماعية، ثمّ في مراحل لاحقة، مع المحافل والشخصيات السياسية والجهادية المختلفة، سواء تلك التي كانت موجودة في المهجر خلال مرحلة المعارضة، أو الموجودة في داخل العراق بعد الإطاحة بنظام صدام ربيع عام 2003.
وفي مناسبات عديدة مختلفة، تحدث سيد المقاومة عن طبيعة علاقته بالعراق والعراقيين، والمكانة التاريخية والدور المحوري لهذا البلد في قضايا الأمة. وفي عام 2022 حينما طرح عليه سؤال خلال لقاء اعلامي عمّا يشاع عن تدخلات حزب الله في العراق، قال بوضوح: "ليس لدى الحزب مشروع خاص في العراق، ونحن لا نتبنّى جهة على حساب الجهات الأخرى، والدور الذي كان حزب الله حريصًا دائمًا على القيام به في العراق هو تقريب وجهات النظر". وقبل ذلك، وتحديدًا في شهر نيسان/إبريل من عام 2004، أي بعد عام واحد من الغزو والاحتلال الأميركي، تحدث السيد نصر الله بالتفصيل عن رؤيته للوضع العراقي في ظل الاحتلال وتحديات ومخاطر الإرهاب، وكانت قراءته الاستشرافية للمشاكل والحلول والمعالجات، دقيقة وعميقة للغاية.
وفي واقع الأمر، كان العراق في مختلف الظروف والاحوال داعمًا ومساندًا للبنان عمومًا، ولحزب الله على وجه الخصوص، لا سيما ما يتعلق بالصراع مع الكيان الصهيوني، في ذات الوقت الذي كان فيه الحزب داعمًا ومساندًا للعراق، سياسيًا، في إطار تعزيز العملية الديمقراطية، وعسكريًا، في إطار حربه ضدّ الإرهاب التكفيري، متمثلًا بتنظيم "القاعدة"، ومن ثمّ تنظيم "داعش"، إذ ساهم حزب الله بكلّ إمكانياته وخبراته في درء الخطر عن العراق، وهذا ما لا يمكن نكرانه أو التغافل عنه.
ولأن العراق أصبح يصنّف ضمن جبهة - أو محور - المقاومة، ولا سيما بعد الحرب على تنظيم "داعش" الإرهابي وما أفرزته من حقائق ووقائع على الأرض، ولأن حزب الله اللبناني كان يمثل أيضًا أحد أبرز عناوين جبهة المقاومة وأطرافها الضاربة، فإنَّ الخلط والتشويه والتزييف كان حاضرًا في شتّى المنابر السياسية والمحافل الفكرية ووسائل الإعلام المعادية لجبهة المقاومة.
وعلى الصعيد العام، وليس على الصعيد الشخصي بالنسبة للسيد الشهيد نصر الله فحسب، فإنَ حزب الله اللبناني أرسى منذ تأسيسه عام 1982 علاقات إيجابية طيبة مع مختلف القوى والشخصيات السياسية العراقية التي كانت تمارس العمل السياسي المعارض لنظام حزب "البعث" حينذاك من المهاجر والساحات المختلفة في إيران وسورية ولبنان وأوروبا.
وما ساعد في إرساء تلك العلاقات الإيجابية الطيبة هو انحدار قيادات وكوادر حزب الله من ذات المدرسة التي ولدت من رحمها القيادات والكوادر السياسية والجهادية الإسلامية العراقية.
إلى جانب ذلك، فإنه ارتباطًا بالقواسم الدينية والعقائدية المشتركة، والثوابت السياسية بين حزب الله اللبناني وطيف كبير وواسع من المكونات الاجتماعية والسياسية العراقية، كانت التحديات والمخاطر واحدة أو متشابهة، وهو ما أوجد ظروفًا ملائمة - وملحّة في كثير من الأحيان - للتعاون والتنسيق وتبادل التجارب والخبرات، وبالتالي التأسيس لمناهج عمل وتحرك ذات طابع إستراتيجي يتجاوز الأهداف الآنية المرحلية والحسابات والآفاق الضيقة.
وما يؤكد ذلك هو أن حزب الله بقيادة سيد المقاومة تعاطى مع مجمل أحداث ووقائع الساحة العراقية بعد سقوط نظام صدام في ربيع عام 2003، وخضوع البلاد للاحتلال الأميركي، بشكل عقلاني وحكيم، فهو في الوقت الذي لم يقحم نفسه في تفاصيل الخلافات والاختلافات الداخلية، فإنه أكَّد مواقفه المبدئية التي لا تعد بأيّ حال من الأحوال تدخلًا في الشؤون الداخلية، من قبيل رفض وجود الاحتلال، والتعبير عن الدعم والتأييد السياسي للقوى المناهضة له والساعية إلى إنهائه، وهو ما شدد عليه السيد نصر الله في عام 2004 وفي ظروف ومناسبات مختلفة لاحقة.
وما يعزز هذه الحقيقة ويعطيها بعدًا أشمل يتعدى البعد السياسي البحت المتعلّق بتشكيل الحكومات، هو أن حزب الله اللبناني وضع كلّ خبراته وتجاربه العسكرية القتالية والأمنية، من خلال المستشارين والخبراء في شؤون المعارك والحروب، بين أيدي العراقيين، بعد اجتياح تنظيم "داعش" الإرهابي، وصدور فتوى الجهاد الكفائي من قبل المرجع الديني الكبير آية الله العظمى السيد علي السيستاني في الثالث عشر من حزيران/يونيو 2014.
فضلًا عن ذلك، فإن ما كان - وما زال - يجمع بين العراق وحزب الله اللبناني هو الرفض القاطع للتطبيع مع الكيان الصهيوني بكلّ أشكاله ومظاهره وصوره، ومساندة القضية الفلسطينية بأقصى الإمكانيات.
وفي كلّ المحطات والمنعطفات والأحداث، كان الشهيد السيد نصر الله هو صاحب المبادرة الحقيقية، والموقف المبدئي، والصوت الصادح، والعقل الراجح، منطلقًا من حسابات شمولية، ومصالح عامة، وتقديرات صائبة ودقيقة لحقيقة مجريات الأمور وتبعاتها وتداعياتها.
وإزاء ذلك فإنه من الطبيعي جدًا، أن نشهد مظاهر احياء واسعة لذكرى استشهاده في العراق، مثلما شهدنا ذات المظاهر بعد استشهاده. وكلّ هذا ينطوي على رسائل بليغة تتجاوز الشخوص والعناوين السياسية والحزبية المحدّدة لتمتد إلى فضاءات المذهب والدين والإنسانية.