اهلا وسهلا...
موقع العهد الاخباري

كانت البداية في 18 حزيران/ يونيو 1984 في جريدة اسبوعية باسم العهد، ومن ثم في 5 تشرين الثاني/ نوفمبر 1999 أطلقت النسخة الاولى من جريدة العهد على الانترنت إلى ان أصبحت اليوم موقعاً إخبارياً يومياً سياسياً شاملاً

للتواصل: [email protected]
00961555712

المقال التالي عوائل الشهداء تعاهد سيد شهداء الأمة.. صون السلاح مهما بلغت التحديات

مقالات

طوفان الاعترافات يربك
مقالات

طوفان الاعترافات يربك "إسرائيل": هل بدأ الغرب الرسمي بمراجعة نفسه؟

127

في لحظة تاريخية، شهد العالم طوفانًا من الاعترافات الغربية بدولة فلسطين، مع تصدر بريطانيا وكندا وأستراليا والبرتغال المشهد، وفي اليوم التالي، أعلنت فرنسا مع 10 دول أخرى اعترافها رسميًا بدولة فلسطين، وسط ضغوط شعبية متصاعدة وديناميكيات دولية متغيرة. على نحو غير مسبوق، باتت الاعترافات تتوالى ليس فقط كإجراء رمزي، بل كإشارة إلى تحوّل محتمل في وعي الغرب الرسمي، الذي لم يعد قادرًا على تجاهل إرهاصات الرأي العام العالمي، خصوصًا أمام الإبادة المستمرة في غزّة ومشاريع الضم والتطهير الديمغرافي في الضفّة الغربية.

إن هذا الطوفان من الاعترافات يربك "إسرائيل" ويضعها أمام لحظة حقيقة: دولة طالما اعتبرت نفسها محاصرة، باتت الآن تواجه سيناريوهات جديدة حيث يتحول الرأي العام العالمي إلى أداة ضغط أشد من أي أسلحة تقليدية، وأشد من أي غارات جوية أو عمليات عسكرية، لأنه يمس صلب المشروع الصهيوني ويعيد تعريف صورة "إسرائيل" كمحتل دائم، لا ككيان محاصر. في هذا السياق، لم يعد بالإمكان التعامل مع الاعترافات الأوروبية كأوراق مناورات سياسية، بل كإشارات لمراجعة الغرب الرسمي نفسه.

علم فلسطين ممنوع في البلديات ومسموح في الإليزيه: ازدواجية الاعتراف الفرنسي

الاعتراف الفرنسي بالدولة الفلسطينية، الذي أعلن عنه في مقر الأمم المتحدة، يكشف عن ازدواجية في السياسة الفرنسية. ففي الوقت الذي ستعلن فيه باريس دعمها الرسمي لفلسطين، تم توجيه أوامر إلى المحافظين بمنع رفع العلم الفلسطيني في البلديات، باعتباره "اعتداء على حياد الخدمة العامة". هذا التناقض يعكس موقفًا مزدوجًا: الاعتراف السياسي الرسمي من أعلى مستويات الدولة، مقابل محاولات لتقييد تأثير هذا الاعتراف على الشارع والمجتمع المدني.

إن هذه الازدواجية الفرنسية ليست مجرد مسألة رمزية؛ بل تكشف عن إستراتيجية غربية تقليدية: الاعتراف بالدولة الفلسطينية يُقدم كحل دبلوماسي، في حين تظل أدوات الضغط الواقعية على "إسرائيل" محدودة، أو مشروطة بمصالح اقتصادية وأمنية وسياسية. هذا التعاطي يسلط الضوء على الفجوة بين الشعارات الدبلوماسية والواقع العملي، ويبرز أن الاعتراف وحده لا يكفي لوقف جرائم الاحتلال والإبادة الجماعية المستمرة.

الاعتراف بالدولة الفلسطينية بلا عقوبات ولا معنى

على الرغم من القيمة الرمزية الهائلة لهذه الاعترافات، فإنها بلا عقوبات عملية تبقى حبرًا على ورق. فإن "إسرائيل" تستمر في حرب الإبادة على غزّة ومشاريع التوسع الاستيطاني في الضفّة الغربية، بينما يظل المجتمع الدولي عاجزًا عن فرض أي ضغط فعال. في هذا السياق، تطرح خطوة الاعتراف تساؤلًا جوهريًا: هل يمكن للاعتراف وحده أن يوقف آلة العنف "الإسرائيلية"؟ الإجابة العملية تبدو واضحة: لا.

ما لم تُقترن الاعترافات الغربية بإجراءات عقابية -مثل تجميد مبيعات الأسلحة، ووقف التعاون العسكري والتكنولوجي، وفرض عقوبات اقتصادية- فإنها لن تحقق أي أثر ملموس على الأرض. ومن هنا يظهر المفهوم المركزي للتحليل: الاعتراف السياسي يجب أن يتحول إلى رافعة قانونية وحقوقية، ليس كهدية معنوية للشعب الفلسطيني فحسب، بل كأداة ضغط على "إسرائيل" لإجبارها على الالتزام بالقانون الدولي ووقف الانتهاكات.

كما أن الاعترافات الدولية المتتالية تحمل قيودًا جوهرية، أبرزها غياب تحديد واضح للحدود وفقًا لإعلان الاستقلال الفلسطيني عام 1988، وما يشمل الأراضي المحتلة عام 1967. هذه الغموضات تجعل من الدولة الفلسطينية مشروعًا ناقص السيادة والجغرافيا، معرضًا لمزيد من التهجير والاستيطان، وهو ما يقلل من فرص قيام دولة قابلة للحياة. ومع ذلك، فإن الاعترافات تقدم للفلسطينيين أدوات قانونية ودبلوماسية جديدة على المستوى الدولي، لكنّها لن تُترجم إلى واقع ملموس إلا إذا رافقتها خطوات عملية، كما ذكرنا سابقًا في هذه الفقرة.

"إسرائيل" أمام لحظة الحقيقة: حين يتحول الرأي العام العالمي إلى سلاح أشد من الطائرات

تواجه "إسرائيل" اليوم واقعًا جديدًا: تصاعد عزلة الكيان "الإسرائيلي" على المستويات السياسية، الاقتصادية، الرياضية والثقافية. الاحتجاجات في الملاعب الأوروبية، ومقاطعة الجامعات والمؤسسات الأكاديمية، إضافة إلى حراك موسيقي وفني عالمي ضدّ "إسرائيل"، يشكّل نموذجًا لكيفية تحول الرأي العام العالمي إلى سلاح سياسي فعال. لقد بدأت صورة "إسرائيل" المثالية - كما كانت تُسوق عبر الإعلام الرسمي والدبلوماسي- تتفكك، ليحل محلها الوعي الجماهيري الدولي بجرائم الإبادة والتطهير العرقي.

في هذا السياق، لم تعد الطائرات والغارات والتهديدات العسكرية وحدها كافية لفرض السيطرة أو التأثير على الرأي العام، بل أصبح الرأي العام العالمي أداة إستراتيجيّة، تضغط على الحكومات الغربية لإعادة النظر في سياساتها، وفرض نوع من المساءلة على "إسرائيل". وهذه الديناميكية الجديدة قد تفتح أبوابًا لدفع "إسرائيل" إلى تعديل سلوكها، وإن بصورة جزئية، تحت وطأة التغيير في المزاج الشعبي الدولي.

طوفان الاعترافات الغربية: انعكاسات إستراتيجية

يمكن تلخيص أبرز انعكاسات الاعترافات الغربية المتسارعة في أربعة محاور:


1.    كسر الإجماع الغربي التقليدي: هذه الاعترافات تكسر الإجماع "الأميركي - الإسرائيلي" الذي دام عقودًا، وتضع ضغطًا على واشنطن لمراجعة إستراتيجياتها التقليدية في المنطقة، خصوصًا أمام فشل سياسات ترامب السابقة في فرض حل للصراع.
2.    إعادة تعريف "إسرائيل" كمحتل دائم: الاعترافات تحول صورة "إسرائيل" من كيان "محاصر" إلى "كيان احتلال"، مما يضع المشروع الصهيوني أمام اختبار دولي جديد، ويجعل استمرار الاحتلال والمجزرة أكثر تكلفة دبلوماسيًا وسياسيًا.
3.    تحفيز الرأي العام العالمي: لم تعد الاعترافات مجرد قرارات حكومية، بل امتدت لتشمل الضغوط الشعبية العالمية، التي بدأت تؤثر على الشركات، الرياضة، والثقافة، فتشكّل ضغطًا مستمرًا على الحكومات الغربية لتغيير سياساتها تجاه "إسرائيل".
4.    فرصة فلسطينية للتوحد والمراجعة الداخلية: الاعترافات تشكّل محفزًا للفلسطينيين لمراجعة إستراتيجياتهم الوطنية، وتوحيد الصفوف في مواجهة التحديات الخارجية، بدل الاقتصار على المراهنة على الدعم الدولي وحده.
 

ما الذي يفرض على الغرب الرسمي مراجعة نفسه؟

يطرح السؤال الأكثر أهمية: هل التغيير في الموقف الغربي سببه ضغوط الرأي العام العالمي، أم هو تحول إستراتيجي في الإدارات الأوروبية الغربية؟ التحليل يشير إلى أن هناك علاقة تكاملية بين الاثنين. أولًا، الضغوط الشعبية المستمرة، سواء من خلال الاحتجاجات، الحملات الإعلامية، أو المقاطعة الدولية، أجبرت الدول على اتّخاذ خطوات رسمية لتصحيح صورتها أمام مواطنيها. ثانيًا، هناك مصالح سياسية ودبلوماسية أوسع، حيث لا يمكن للحكومات الغربية تجاهل فجوة الشرعية التي بدأت تنبثق على المستوى الدولي، خصوصًا مع توسع الاعترافات بدولة فلسطين إلى أكثر من 150 دولة عضو في الأمم المتحدة.

بعبارة أخرى، ما يحدث هو مشهد مزدوج: ضغوط الشعب تُحدث الفعل، والسياسات الرسمية تحاول اللحاق بها، في حين تبقى أدوات الضغط الفعلية على "إسرائيل" - من عقوبات وحصار ومقاطعة شاملة - محدودة أو ناقصة. هذا المزيج يعكس أزمة ثقة حقيقية بين الشعوب والحكومات الغربية، ويعطي فلسطين موقعًا فريدًا في قلب الصراعات الجيوسياسية المستقبلية.

خطوة أولى في اتّجاه صحيح، لكنّها تحتاج إلى فعل

طوفان الاعترافات بالدولة الفلسطينية يمثل لحظة تاريخية، لكنّها لحظة مشوبة بالتحفظ والواقعية. على الرغم من القيمة الرمزية، فإن تأثيرها الفعلي مرتبط بالقدرة على تحويل هذه الاعترافات إلى أدوات ضغط قانونية وسياسية على "إسرائيل". في الوقت نفسه، فإن الرأي العام العالمي أثبت أنه يمكن أن يكون أكثر فاعلية من أي غارات جوية أو تهديدات عسكرية، وأن تحول المزاج الدولي إلى دعم فلسطين يفرض على أنظمة الدول الغربية مراجعة سياساتها.

ورغم كلّ القيود، لا يمكن إنكار أن هذه اللحظة توفر فرصة نادرة للفلسطينيين. فالفضل الأساسي يعود لصمود غزّة على مدار عامين في مواجهة حرب إبادة مستمرة، وللمقاومة التي أبقت القضية حية على المستوى المحلي والدولي. هذه القوّة الميدانية والسياسية الفلسطينية هي التي تجعل الرأي العام العالمي يتحرك، وهي ما يخلق الشرط الأساسي لنجاح أي تحرك دبلوماسي رسمي. فالاعتراف الدولي هو جزء من هذا الإطار، لكنّه لن يكون نافذًا إلا إذا تبنى الفلسطينيون إستراتيجية وطنية متماسكة، تبدأ أولًا بالوحدة الداخلية، وترتكز على حقوق الشعب والأرض والسيادة، وليس على رغبات الدول المانحة أو دفتر الشروط "الإسرائيلي".

في نهاية المطاف، تبقى فلسطين في قلب المعادلة، ليس فقط كدولة معترف بها، بل كشعب صامد في غزّة والضفّة، قادر على تحويل هذه الفرصة الرمزية إلى تحرك فعلي يفرض على المجتمع الدولي مسؤولياته القانونية والسياسية. الطوفان لم ينته بعد، وفرصة التغيير لا تزال قائمة، لكنّ مفتاحها الأساسي يظل مرتبطًا بالضغط الشعبي، الوحدة الوطنية الفلسطينية، واستثمار هذه اللحظة الرمزية لتحويلها إلى واقع ملموس على الأرض.

الكلمات المفتاحية
مشاركة