نقاط على الحروف
في حالةٍ واحدةٍ فقط، يمكن التعامل مع سيل الاعترافات بالدولة الفلسطينية بجدّية، وهي أن تكون نواةً لدولةٍ فلسطينية من البحر إلى النهر، ويكون الاعتراف قائمًا مع إجراء قانوني بروتوكولي، لتغيير حدود تلك الدولة، من حدود عام 1967، إلى حدود فلسطين التاريخية، بعد زوال الكيان المؤقت.
أمّا دون ذلك فمن الصعب حتّى إسقاط تجارب تاريخية، على هذا السيل من الاعترافات الدولية فارغة المضمون، حتّى تلك الكيانات التاريخية التي تم تصنيفها كملهاة، أو كيانات ودول تم تصنيفها كمهزلة تراجيدية كما وصفها المؤرخ البريطاني إدوارد غيبون، أو كما قال فرانز فانون، كاريكاتور دول، بينما وصف ابن الأثير ملوك تلك الكيانات العابرة بأشباه الملوك.
على مدار عامين شعبٌ يُذبح من الوريد إلى الوريد، يُقصف من الجو والبر والبحر، وتُهدَّم مدائنه بيتًا بيتًا وشارعًا شارع، مدارسه جامعاته مستشفياته أسواقه، آثاره ومعالمه الحضارية والتاريخية، التي تسبق بوجودها نزول التوراة، تقتله آلة الحرب الصهيوغربية بكلّ الوسائل، بما عرفته البشرية وما لم تعهده، وكلّ يومٍ تخترع وسيلةً مستحدثة للموت.
على مدار عامين يقف العالم في حالة انتظار، أن تنتهي هذه المأساة بموت الضحية، التي أرَّقه موتها البطيء، وبدلًا من إسعافها بوقف القتل، يسدل ستارًا من لغو الكلام ولهو الساسة، ليخبئ العالم قبحه وتواطؤه، وليتفاخر أعراب العالم بمنجزاتهم الفذّة، بأنّه لولا قماشهم لما استطاع العالم إسدال هذا الستار، ويطلبون الشكر، فشكرًا لهم كما قال مظفر النواب: "نشكركم شكرًا لا حدّ له، نشكر علانًا وفلانًا وفلينًا والفلن الثاني(...) نشكركم يا فضلات".
في القانون الدولي وحسب اتفاقية مونتفيديو 1933، فإنّ مقومات الدولة أربع ركائز، 1 - الشعب 2 - الإقليم 3 - الحكومة 4 - القدرة على الدخول في علاقات دولية، ويشترط الفقهاء ركيزة ضرورية وهي السيادة، وهذا بالشكل القانوني بعيدًا عن المفهوم السياسي، فإنّ هذه الاعترافات المتلاحقة تضيف عوارًا قانونيًا للعمى السياسي.
حيث إنّ الاعتراف مشروط بأن تكون دولة منزوعة السلاح، ودون أيّ تمثيل لحركة حماس، وهذه الشروط بغضّ النظر عن ماهيتها، هي طعنٌ في ركيزة السيادة، فضلًا عن عدم قدرة الحكومة - السلطة - على ممارسة سيادتها على إقليم الدولة المفترض، ناهيك عن عدم وجود إقليم مستقل خارج عن حدود سيطرة الاحتلال، وهذا بحدّ ذاته يجعل من السلطة مجرد وكيل للاحتلال، وبالتالي فهو اعترافٌ يشرعن الاحتلال، ويشرعن انتزاع السيادة، ويشرعن خواء الدولة من أيّ معلم استقلالي.
وعلى ذلك التقى النفاق الغربي مع التواطؤ العربي، فالأنظمة الغربية التي تفاجأت بردّة فعل شارعها، أرادت امتصاص هذه النقمة، كما أرادت التمسك بآخر أقنعة الأخلاق المُدّعاة، وفي المقابل حماية "إسرائيل" من صلفها، وإهداءها دولةً فلسطينيةً على شكل مخترة وعلى شكل بلدية في أحسن الأحوال، مقابل تشريع ابتلاعها لكل ثروات المنطقة واستعبادها شعوبًا وحكومات.
فيما التواطؤ العربي وجد في ذلك ورقة التوت، التي يستر بها عوراته، التي لا تكفيها كلّ أوراق التوت على كوكب الأرض، حتّى يتماهى مع أوهام نتنياهو دون أرق التفكير بردّة فعل شعوبهم، ولتنظر إليهم شعوبهم المغيبة نظرة افتخار، كيف أنّهم انتزعوا دولةً من بين أنياب الذئب نتنياهو، بينما هم يجلسون أمام ترامب يستعطفونه لوقف الحرب على غزّة أمام الكاميرات، بينما خلفها لهم رأي آخر.
بينما في الحقيقة هم أقوى وأكثر تأثيرًا لوقف المقتلة من ترامب، بشرطٍ واحد فقط، أن يمتلكوا قرارهم، لكنّهم يعتقدون يقينًا أن امتلاك قرارهم مجازفة، وهم لا يريدون أن يكونوا مغامرين، فالأسلم وضع القرار في سلة ترامب، حتّى لو أهداه بسلّته لنتنياهو، وهم يعتبرون الطاعة العمياء حكمة و"النطاعة" بمفهومها الشعبي ذروة الحكمة.
هؤلاء الذين يسارعون للاعتراف بدولةٍ على الورق، لم يستطيعوا وقف المذبحة ليومٍ واحد أو ساعةٍ واحدة، بل لم يستطيعوا إطعام جائعٍ واحد أو سُقيا عطشانٍ واحد، يريدون إقامة دولة، إنّهم أشباه ملوك كما وصفهم ابن الأثير، يحكمون كياناتٍ لا تعدو كونها ملهاة تاريخية، حتّى أوروبا أصبح ملوكها كمملكة طرابلس الصليبية مجرد مهازل تراجيدية، لا تملك من أمرها شيئًا غير الخضوع لابتزازات ترامب وصبيانية نتنياهو.