مقالات مختارة

ناصر قنديل - صحيفة البناء
مئات القيادات الشعبية والسياسية والنقابية والشخصيات الحقوقية والطبية ونشطاء فاعلون على وسائل التواصل الاجتماعي من كل أنحاء العالم وخصوصاً من أوروبا، فهموا عميقاً معنى طوفان الأقصى وحق الشعب الفلسطيني، وقرروا خوض حرب الوعي لنقل الشارع الأوروبي خصوصاً، والغربي عموماً، ومعها خوض حرب وضع حكوماتهم وجهاً لوجه أمام كيان الاحتلال، بعدما لمسوا أن استنهاض الشارع وتوجيه ضغطه على الحكومات قد حقق نجاحاً جزئياً بقيت الحكومات قادرة على الالتفاف عليه بإبدال الأفعال الموجعة لـ”إسرائيل” بكلمات قوية مثل حل الاعتراف بدولة فلسطين ضمن حل الدولتين، وهي ككل الصيغ السياسية قابلة للتفخيخ والإفراغ من المحتوى، بينما الأفعال مثل قطع العلاقات السياسية والدبلوماسية والاقتصادية وإنزال العقوبات بـ”إسرائيل” وإقفال الموانئ والمطارات بوجه السفن والطائرات الإسرائيلية، بقيت صعبة المنال.
– قرّر هؤلاء النشطاء القادة تشكيل أسطول الصمود استجابة لنداء ضمائرهم والحاجة لفعل شيء يعبر عن إرادة كسر الحصار عن غزة، ويفتح الطريق أمام مبادرات مشابهة للمنظمات الأممية المتخصصة، وهؤلاء القادة يعلمون أن تجارب إرسال سفينة وسفينتين لن يحدث الأثر المطلوب، فقرروا تنظيم أسطول كانوا يرغبون أن يضم مئات السفن وآلاف النشطاء، لكن الإمكانات المالية التي جمعوها من خلال تبرعات فردية لم تسمح بتأمين ما يكفي من سفن لجميع الراغبين بالمشاركة، وقد حرصوا على إشراف مكاتب قانونية متخصصة على التفاصيل منذ البداية، وبينهم خبراء محترفون في القانون، وسجلوا لذلك تراخيص السفن وملكياتها ودفاتر التمويل يوماً بيوم، ودققوا في هويات الناشطين الراغبين بالمشاركة واستبعدوا كل مَن اعتقدوا أن الاحتلال سوف يتخذ من مواقفه السياسية والإعلامية ذريعة ليربط الأسطول بقوى المقاومة، وهم حريصون على القول إن مبادرتهم إنسانية بلا أهداف سياسية، وإن الطابع الغالب عليها منشأه من دول الغرب التي تزعم “إسرائيل” أنها دول نموذج ومثال في الديمقراطية والتمدن.
– وضع هؤلاء القادة أمامهم ثلاثة سيناريوهات لتعامل كيان الاحتلال، الأول أن ينجح الأسطول أو بعضه بالوصول إلى سواحل غزة، بالاستفادة من الإرباك السياسي واللوجستي الذي يسببه الأسطول لقوات الاحتلال، سواء بسبب تعدد الجنسيات وهوية النشطاء أو عدد سفن الأسطول وصعوبة السيطرة عليه، خاصة عندما كانت الفكرة تنتظر مئات السفن، وفي هذه الحالة يكون الأسطول كفكرة قد نجح، وبالتالي يتكرر بمئات ومئات ومرات ومرات ويكسر الحصار وتكون هزيمة معنوية ومادية قد لحقت بكيان الاحتلال، واستنهض الشارع للمساهمة بالمزيد بعدما يكون الأسطول قد شق الطريق، والأساطيل سوف تكون مسيرات بحرية ثقافية وسياسية سرعان ما تصبح سيلاً لا يتوقف لنصرة فلسطين.
– السيناريو الثاني أن ينجح الاحتلال بمحاصرة الأسطول بسفن ضخمة تحول دون تقدمه، والأسطول يرفض التراجع ويتحول الى اعتصام بحري على تخوم ساحل غزة، ما يستدعي إسناده بأساطيل مشابهة وامتلاء البحر المتوسط بمئات السفن التي يقف من خلفها مئات الآلاف الذين يملأون الساحات والشوارع في مدن العالم، وخصوصاً في أوروبا، وهذا يرفع مستوى التحدّي بين الشارع الأوروبي، والغربي عموماً والعالمي بصورة أعم من جهة، وكيان الاحتلال من جهة مقابلة.
– السيناريو الثالث وهو ما حدث، أن يركب قادة الكيان رؤوسهم وأن يقتحموا الأسطول وأن يعتقلوا النشطاء، وفي توقيت سياسي نجحت فيه خطة الرئيس الأميركي دونالد ترامب بفك الكثير من العزلة عن الكيان، عندها سوف تصبح أجساد وحياة وحرية هؤلاء القادة بنظر شعوب أوروبا والغرب والعالم، تجسيداً لهويتها الجمعية، ويصير الاعتداء إهانة جمعية مباشرة لأوروبا والغرب والعالم، بما يتجاوز التضامن مع فلسطين وقضيتها، وتصبح القضية أن العدوانية والغطرسة الإسرائيلية هي فاشية عنصرية جديدة تهدد الأمن والسلم الدوليين، وأن أوروبا خصوصاً يعتدى على كرامتها، وهذا ما يحدث، تعود العزلة تخنق “إسرائيل”، تهتز شوارع أوروبا بمئات آلاف المتظاهرين، تهدّد حكومات أوروبا المتخاذلة بالسقوط كحال حكومة جورجيا ميلوني في أوروبا.
– الشيء المؤلم الوحيد في المشهد هو هزال الحضور التضامني في العواصم العربية، بينما ملايين الناس ملأت الشوارع في مدن أوروبا، لكن في السياسة تبدو “إسرائيل” وقد خسرت كل ما جمعه ترامب ليحقق لها الأرباح، بعدما نجح هؤلاء القادة الذين خاطروا بأرواحهم ونجحوا في تفجير علاقة “إسرائيل” بأوروبا بأجسادهم.