مقالات مختارة

زينب حمود - صحيفة الأخبار
في مثل هذا اليوم قبل سنة، كان عناصر الدفاع المدني التابع لـ«الهيئة الصحية الإسلامية» - فريق الباشورة - يواصلون رفع الأنقاض والبحث عن الشهداء في المكان الذي استهدف فيه الأمين العام السابق لحزب الله، السيد الشهيد حسن نصر الله، في حارة حريك.
مساءً، عادوا إلى مركزهم للاستراحة، وضبطوا المنبّه ليَرُنّ عند السادسة من صباح اليوم التالي، باستثناء محمد فرحات، الذي كانت استراحته تمتدّ حتى التاسعة صباحاً.
لكن معظمهم لم يستيقظوا، فالعدو "الإسرائيلي" استهدف مركزهم بعد منتصف الليل، بثلاثة صواريخ، ومن ثمّ استهدفهم بصاروخ رابع، وهم على فراشهم، ليستشهدوا جميعاً، ما عدا فرحات، وحسام بلوق، الذي دخل في غيبوبة، ولا يزال وضعه الصحي غير مستقرّ حتى الآن.
وجد فرحات نفسه عالقاً تحت الردم، تتساقط عليه الحجارة، وتحاوطه النيران، فصرخ لرفاقه: «يا مهدي، يا أبو علي، يا مصطفى»، من دون أن يلقى جواباً من أحد. ونظراً لخبرته في العمل الإنقاذي، راح يحسب الوقت الذي سيستغرقه وصول فريق الإسعاف، وإبعاد الناس، وإيجاده. وغرق في دوّامة: «ماذا لو أنّ البناء كلّه سقط ولم يجدوني قبل أيام؟ وماذا لو ظنّوا أننا كلّنا شهداء وتوقّفوا عن البحث؟». ثم سمع أصوات الصراخ، «فعرفتُ أنني لست تحت الأرض وسيكون إنقاذي أسهل»، كما يقول. وعندما جاء أحد المسعفين وناداه باسمه المعروف بين العناصر «يا فرحات»، ردّ عليه: «أنا عايش»، وصار يحرّك الحجارة من حوله ليدلّهم إلى مكانه.

خرج فرحات، من البناء بأعجوبة بعدما سقط حائط عليه، فثبّته في مكانه. أمّا رفاقه، فمنهم من قذفهم عصف الانفجار إلى مقبرة الباشورة المجاورة، ومنهم من سقط إلى الطابق الأول. ورغم أن معظمهم انتشلوا جثثاً مشوّهة ومبتورة الأطراف، أراد رفاقه أن يخفّفوا عليه وقع الخبر، فـ«أخبروني بشهادتهم واحداً تلوَ الآخر، كان أملي الأخير أن يبقى مهدي حلباوي (مسوؤل منطقة بيروت في الهيئة) حيّا ظنّاً مني أنه جريح، وعندما عرفت بشهادته هو أيضاً، شعرت بوحدة تخنقني».
كانت علاقة العناصر في مركز الباشورة أكثر من علاقة زمالة، الشباب كانوا عِشرة عُمر. يذكر فرحات، كيف كان مهدي مُتعباً في آخر أيام حياته، «منذ جريمة تفجير أجهزة «البايجر»، بدا عليه التّعب، خاصة عند شهادة السيد حسن، حتى صرنا في جمعاتنا نلحظ أنه معنا جسدياً، لكنّ روحه في مكان آخر». وفي آخر ليلة لهم، و«بينما كنا نضحك وندخّن النرجيلة، كان مهدي يجلس أرضاً منحني الظهر، ويضع يديه فوق رأسه، وينظر إلى الأعلى».
بعد استهدافه، نقلت الهيئة مركز الباشورة إلى مكان آخر، وملأت الشواغر. لكن، أثر المسعفين الشهداء «لن يغيب عن ذاكرة المركز». سيبقى مهدي هو القائد، والشهيد رجا زريق المعروف بـ«أبو علي ملاك»، مدير العمليات الذي لا يهدأ هاتفه، والذي يسأل عنه كثيرون لطلب مساعدة أو خدمة إنسانية، ولا يَردُّهم.
ولن ينسى المركز أينما كان موقعه «الجوكر» مصطفى الموسوي، مسؤول فرق الإنقاذ في بيروت، ورجل المهمّات الصعبة، الذي بقي في المركز منذ حادثة تفجير «البايجر» ولم يودّع عائلته في النبي شيت.
كان في مركز الباشورة عناصر «لن يتكرّروا» مثل وسام سلهب، مسؤول صيانة الآلات، «الخدوم والذي يبحث في منتصف الليل عن لحّام ليُطعِم المتطوّعين»، لأنه «عيب نطعميهم منقوشة زعتر متلنا». كذلك، «لن ننسى نهفات أحمد حايك، مسؤول التجهيز الذي طلبت منه سيدة في أثناء انتشار فيروس «كورونا» معقّمات، ولم يجد في المركز، فأحضر لها غالون «الديتول» من منزله».
«لم أرسل ابني إلى الجبهة»
ومن بين الشهداء في مركز الباشورة المسعفان المتطوعان ساجد شري وحسن الخنسا. يقول فرحات، إنه «كان أمام حسن فرصة ليعيش حياة مختلفة، فعائلته ميسورة الحال، وهو شاب متعلّم وموهوب، لكنه منذ جريمة «البايجر» رفض مغادرة المركز، حتى استشهد فيه».
يوم شهادته، جاء حسن، إلى المنزل في زيارة خاطفة ليغسل البدلة. و«ظلّ يسألني إن نشفت، حتى لبسها وهمَّ إلى المركز على عجل»، تقول أمه فاطمة دقماق. بعد الشهادة، تحوّل بنطاله إلى تذكار تُعلِّقه الأم على جدار منزلها.

لم تهيّئ الأم نفسها لخسارة ابنها الوحيد. حضّرت محفظته وكل لوازم السفر ليتابع الدراسة في تخصّص طبّ الأسنان، بانتظار قبوله في «جامعة إيران»، ليصلها خبر القبول بعد يومين من شهادته. تقول: «بخلاف أمهات المجاهدين، أنا لم أرسل ابني إلى الجبهة، وإنما ليمارس عملاً إنسانياً، وأبقيته في جواري في مركز الدفاع المدني الذي لا يبعد دقيقتين عن المنزل، وضمن بيروت التي كانت حتى ذلك الوقت تُعدُّ آمنة». وظنّت الأم أنّ ابنها في أمان، حتى شاهدت استهداف المركز من شباك منزلها.
وراحت تبحث عن ابنها بين الجثث التي تُسحَب: «هذا ذو جسم ممتلئ، وهذا ذو شعر طويل، وهذا يخطُّ وشماً على يده». فلم تعثر عليه. لتعود وتجده عند مدخل «مستشفى بيروت الحكومي»، ملقىً على السرير، فـ«عرفته من هيأته، ولأتأكّد، كشفت عن وجهه، فكان كما هو حسن المظهر، مبتسماً، وأسنانه بيضاء».
هنا «خلصت الحكاية»، كما قالت في اللحظة التي رأته. رفضت الأم وضعه في برّاد الموتى لأنّ «حسن بيبرد»، وظلّت معه، فـ«حضنته وكانت رائحة البارود قوية ومؤذية جدّاً، وقرأت له القرآن». وعند دفنه في مقبرة الغبيري، لم تلحق إلقاء آخر نظرة وداع لأنّ القصف كان قد بدأ، فحملت حفنة تراب من قبره في يديها، ومَضت.