نقاط على الحروف

منذ العام 1967 دخل العالم العربي حالةً من الانكسار، والذي بدا أنّه لا جبر له، وعزز هذا الواقع حالة ثقافوية محبطِة ومحبطَة، استطاعت عن قصدٍ أو غير قصد، أن ترسخ حديث العدوّ عن نفسه كـ"جيشٍ لا يُقهر"، وأنّ مجابهته مغامرة حمقاء، والحنكة تقتضي مهادنته وتجنب استفزازه، والتسليم بوجود الكيان وبقائه، بل والاستسلام له هو رأس الحكمة.
وقد استنفد العالم العربي حنكته وحكمته وكلّ ما أُوتي من قدرةٍ على التذلل وركوب العار، فيما لم يستنفد الكيان غطرسته وعدوانيته، وكلما ازداد العرب جنوحًا وانحرافًا نحو الهوان، ازداد الكيان يمينيةً وتطرفًا، وهذه المعادلة كانت تبدو أبديةً وعصيةً على الكسر، بل أصبحت وكأنّها من البديهيات السياسية والفكرية، وما دونها إلّا الشطط.
وكما يُقال"ناصر 56"، حيث بزوغ نجم الرئيس الراحل جمال عبد الناصر بعد العدوان الثلاثي، وكان انطلاقًا لمشروعٍ عربي، وولادة لزعيمٍ سترى فيه جماهير الأمّة كينونتها وأملها ومستقبلها، نقول اليوم"نصر الله 2000"، حيث بزغ نجم السيد حسن نصر الله قائدًا ملهمًا، وكأنّه جاء من فيوضٍ رحمانية وعلومٍ لدُنِية، كان كالفجر الذي شقّ عتمة الهزائم، فأضاء السبيل لعصر الانتصارات.
فكان تحرير جنوب لبنان عام 2000 للمرة الأولى على مدار الصراع العربي - "الإسرائيلي"، تحريرًا بالقوّة، وانتزاعًا للأرض والحقوق، دون اتفاقاتٍ استسلامية ودون تقديم تنازلاتٍ مذلة، خصوصًا بعد تجاربٍ مهينة في "كامب ديفيد" و"أوسلو" و"وادي عربة"، وكانت انسحابًا للعدو على غير عادته، دون فرض شروطه، مما أحيا من العدم ثقة العربي بقدراته، وظنَّ كلّ حسن الظنّ بنفسه.
لكن على الطرف الآخر كان هناك عربيٌّ ينظر للأمر بعين الريبة والخوف، من وقّع واستسلم، ومن كان ينتظر في طابور الموقعين المستسلمين، كما كان"ناصر56"، صاعقةً أعادت فلسطين إلى قيد الأمل، كان"نصر الله 2000"، كالصاعقة التي أحرقت كلّ خدورهم، التي جهزوها لوقت التوقيع، وبيع أنفسهم وفلسطينهم للأبد، وأعاد فلسطين إلى قيد التحرير.
ولا ننسى في حضرة زمن الانتصارات، خطاب بيت العنكبوت في العام 2000، الذي حفر عميقًا في وجدان ووعي مستوطني الكيان وسياسييه وعسكريه، حيث كان اللبنّة الأولى لهزيمته المذلّة عام 2006، وكان كذلك من ناحيةٍ أخرى اللبنّة الأولى للانتفاضة الفلسطينية الثانية، التي كانت مدماكًا رئيسيًا للوصول إلى طوفان الأقصى المعجز.
لم يكن السيد نصر الله شخصيةً وازنةً سياسيًا وجماهيريًا فقط، بل كان طفرةً سياسيةً فكريةً إستراتيجيةً ثقافيةً وعملية، فقد أجاد السياسة الأخلاقية والأخلاق السياسية، وفي عالم اليوم ترسخ مفهوم الضدين، السياسة والأخلاق، فكان السيد نموذجًا غير مسبوقٍ في ممارسة الأخلاق السياسية، حتّى في أشدّ اللحظات حرجًا.
ستجد السيد نصر الله في كلّ روحٍ تاقت للحرية، وفي كلّ قلبٍ قُدَّ من عزةٍ، ستجد اسمه على كلّ صاروخٍ أصاب الكيان، وستجد آثاره على كلّ رصاصةٍ انطلقت من المسافة صفر على قوات العدو، وستجده أينما سُجلت هزيمة في العمر القصير للكيان، وسيظل طيفه حاضرًا في إستراتيجيات العدوّ حتّى زواله.
هذا العدوّ الذي يردّد دائمًا أنّ العالم أصبح مكانًا أفضل بلا نصر الله، والحقيقة أنّه بالفعل بالنسبة لهم أفضل، وهذه الأفضلية في تفكيرهم تعني أنّه عالمٌ أكثر أمنًا لكيانهم ووجودهم، فالسيد نصر الله قهر"جيشهم" الذي ظنّوه لا يُقهر، وأخرج مارد المقاومة من قمقمه، الذي دخله عام 1967 ولم يخرج، وأحاطهم بأحزمةٍ من نار، بعد أن أحاطهم التخاذل العربي بأحزمةٍ من دروع.
أمّا بالنسبة لمن منحهم السيد قدسًا عند طرف البنان، فالعالم بعده بالنسبة لهم أكثر قتامة وأشدّ نفورًا، وبقدر آمالهم التي ساورتهم بالعشي والإبكار، للصلاة خلفه في باحات الأقصى، بقدر التفجع الذي يفري أكبادهم، لكنّه يشعل فيهم بذات الوقت قدسية الوفاء لطهر دمه، وأنّ توقيعه تحت جملة الهدف الذي عاش ومات في سبيله إزالة "إسرائيل"، سيظل هدفًا كالقضاء والقدر، لا رادّ له عن عنق الكيان، وسيحفر أبناؤه الصخر حتّى تتفجر منه عيون الحرية.