اهلا وسهلا...
موقع العهد الاخباري

كانت البداية في 18 حزيران/ يونيو 1984 في جريدة اسبوعية باسم العهد، ومن ثم في 5 تشرين الثاني/ نوفمبر 1999 أطلقت النسخة الاولى من جريدة العهد على الانترنت إلى ان أصبحت اليوم موقعاً إخبارياً يومياً سياسياً شاملاً

للتواصل: [email protected]
00961555712

المقال التالي صخرة الروشة.. و"اللحم بعجين"

مقالات مختارة

عالم ما بعد الطوفان 
مقالات مختارة

عالم ما بعد الطوفان 

47

عبد الله عقرباوي - صحيفة الأخبار

عندما وقعت أحداث الحادي عشر من سبتمبر في عام 2001، وصفتها الولايات المتحدة بأنها لحظة فارقة في تاريخ سياساتها الخارجية واستراتيجيتها الدولية. وحينها، لم يكن هناك تصريح رسمي أو مقالة تحليلية أو صحافية تخلو من عبارة «ما بعد 11 سبتمبر»، في دلالة كانت وقتها قهرية لرغبة الولايات المتحدة في إعادة تشكيل العالم بما يجدّد تفرّدها في الهيمنة وبسط النفوذ. لا نبالغ إذا قلنا إن لحظة «طوفان الأقصى» في صباح السابع من أكتوبر، شكّلت لحظةً فارقة في تاريخ السياسة الإقليمية والدولية، تفوق في تأثيرها كل لحظةٍ سابقة في المنطقة منذ عقود.

ففي صبيحة السابع من أكتوبر، تلقّت المنظومة الغربية — التي تقودها الولايات المتحدة وتتحالف مع المشروع الصهيوني العالمي — الضربة الأقسى لقاعدتها المتقدّمة في منطقتنا. وتلك الضربة كانت لها دلالتها العسكرية والأمنية الفريدة التي تقوم بها حركة مقاومة وتحرّر وطني. ومنذ ذلك الحين، بات الحديث على كل المستويات، الرسمية والسياسية، الإقليمية والدولية، يدور حول «ما بعد 7 أكتوبر».
ورغم أن غزة محاصرة ومحددوة الجغرافيا، فإن الاتجاه المقاوم الذي تمسّك به قادتها وشعبها، وصمدوا عليه، جعل منها عنواناً متقدماً في التصدي لغطرسة النظام الأميركي الغربي، وحقّق أهدافاً استراتيجية عجز عنها آخرون وتخلّى عنها كثيرون.

لقد دفعت غزة الكيان الصهيوني إلى موقع دولي جديد، موقع لم يكن قادته يتخيّلونه في أسوأ أحلامهم: أن يُواجهوا تحوّلات شعبية ودولية ورسمية تضعهم في موقف الإدانة ونزع الشرعية والنبذ الشعبي. هذا التحوّل في الرأي العام الدولي يصيب سردية هذا الكيان التأسيسية في مقتل؛ ككيان قام على مظلومية اليهود، وأراد أن ينشئ لهم «مستعمرة» يحميهم في أرض المشرق ولكنه ينتمي فكرياً واستراتيجياً إلى الغرب ومصالحه. فلا سردية المظلومية باتت قائمة ولا «المستعمرة الآمنة» باقية ولا الانتماء الفكري إلى الغرب الليبرالي يمكن تصديره في ظل حرب الإبادة.

موجة عالمية
لا نبالغ حين القول إن غالبية آثار وتداعيات هذه التحولات لم تظهر بعد. فقد انتصر «الطوفان» انتصاراً ساحقاً في حرب السردية والمشروعية. فالشوارع العالمية تمتلئ بالمحتجّين على هذا الكيان وجرائمه وعلى المتواطئين معه ومنح الغطاءات لقادته المجرمين. وهذا الطوفان العالمي لا يمكن حصر حركته ولا التنبؤ بمداه وإلى ما سيفضي؛ فهو أكبر من كل الأدوات الاستخبارية والأمنية التي تحاول أن ترصد حجمه.

الذين يملؤون الشوارع والجامعات والمنصات الأكاديمية والمنصات الإعلامية، وفي كل الطبقات والمستويات، هم في الشوارع، وربما في صفوف المعارضة، ولكنهم يقودون تيارات واتجاهات سياسية وفكرية، ويعبّرون عن اتجاهات عميقة في مجتمعاتهم، وغداً سيكونون في البرلمانات ومجالس الشعوب وفي الحكومات المحلية والمركزية وفي المنظمات الدولية. وهذا تحدٍّ على هذا الكيان أن يواجهه في قادم السنوات.

تحوّل الأجيال
أحد المؤشرات الأبرز على التغيّر هو تحوّل مواقف الأجيال الجديدة داخل الدول الغربية، خصوصاً الولايات المتحدة. وفق استطلاع Pew Research Center من آذار/مارس 2024، فإن البالغين دون سن 30 عاماً أكثر انتقاداً لما تفعله إسرائيل في غزة مقارنةً بالفئات الأكبر سناً، وتقلّ نسبة من يرى أن ردّ إسرائيل «مبرّر».

كما أظهر استطلاع Harvard–Harris في آب/أغسطس 2025 أن نحو 60% من جيل Z (من 18 إلى 24 عاماً) في الولايات المتحدة يميلون إلى دعم الفلسطينيين أو حماس في سياق الصراع، مقارنة بمواقف أكثر تأييداً لإسرائيل في الأجيال السابقة.

هذا الانتصار لـ«طوفان الأقصى» ستكون عواقبه وخيمةً على الكيان الصهيوني الذي راهن دائماً على دعم الحكومات وإمبراطوريات الإعلام والشركات الكبرى المالكة لمحرّكات البحث وأدوات التواصل الحديث.

لقد دفع «الطوفان»، وما تبعه من تضامن مع الفلسطينيين ومقاومتهم ونبذاً للكيان وإجرامه، أجيالاً للتحرّر من عملية تأطير وأدلجة منظمة استمرت لعقود دون أن يجرؤ أحد على المساس بها. اليوم بات السؤال الأكثر تداولاً في أدبيات الأجيال القادمة: لماذا إسرائيل؟ ماذا تعني معاداة السامية؟ ولماذا يحقّ لي أن أنتقد كل شيء مهما كان مقدّساً، ولا يحق لي أن أنتقد «إسرائيل»؟ يمكن القول إن هذه السردية قد سقطت بفعل «الطوفان» وصمود أهله.

ونحن اليوم نشهد إدراكاً عميقاً في الشرق والغرب لحقيقة هذا الكيان وليس فقط تضامناً مع مظلومية الفلسطينيين الإنسانية بل وحقّهم في التحرير؛ تحرير فلسطين كل فلسطين. هذه التحولات تشير إلى أن سردية الدعم التلقائي للكيان الصهيوني بدأت تتصدّع في الوعي الغربي، خصوصاً بين مَن ربطوا تاريخ الحرية والعدالة بالقضية الفلسطينية.

تعرية دول التطبيع
لـ«طوفان الأقصى» الفضل في أن المنظومة الرسمية العربية قد تمّت تعرية موقفها بشكل غير مسبوق. ويرصد المراقبون الدوليون حجم الغليان الذي أثاره «الطوفان» في الشارع العربي على هذه الحكومات الفاشلة اقتصادياً وسياسياً. حيث أسهم «الطوفان»، وثبات قيادته ووضوح رؤيته، في أن تتعلّم هذه الشعوب أيضاً من تجربتها السابقة وأن يكون الاصطفاف هذه المرة اصطفافاً واضحاً ضد المستعمر الخارجي. وقد بدأت موجات الغضب الشعبي العربي تطلّ برأسها من جديد.

أمّا على صعيد انتصارات «الطوفان» التي حقّقها بتعميق الخلاف داخل جمهور الكيان الصهيوني، فإنّ الدفعة التي حصل عليها اليمين المتطرف تحت مظلة الحرب، ستكون لها تداعياتها الداخلية أيضاً. حين يهدّد تيار اليمين المتطرّف المتحكّم اليوم في دولة الكيان بحسم المعركة بتنفيذ خطة التهجير وضم الضفة وتهويد القدس، هذا يعني أن هذا التيار سيواصل المعركة وسيبقيها مفتوحة على كل الاحتمالات. فالبيئة التي سبقت «الطوفان» كانت تهدف لأن تتم تصفية القضية الفلسطينية وقتل جذوة المقاومة عند الشعب الفلسطيني وتجاوز حقوق الفلسطينيين ودفن مشروعية وشرعية القضية الفلسطينية عند الشعوب.

بينما جاء «الطوفان» ليخلط الأوراق ويقلب الطاولة على الجميع ويفرض القضية الفلسطينية على كل طاولة وفي كل ساحة وفي كل شارع وفي كل عاصمة وأمام كل حكومة، وأن تصبح القضية الفلسطينية نقاشاً داخلياً في كل الدول، وأن تصبح نماذج المقاومة التي قدّمها أبطال «الطوفان» والتضحية التي قدّمها قادته نماذج عالمية للمقاومة والصمود. لقد أثار نقاشاً فكرياً عميقاً عند طبقات واسعة من الشعوب أعادت النظر والاعتبار للقضية الفلسطينية. ولم يكن لهذا أن يحدث لولا السابع من أكتوبر المجيد.

كل التضحيات التي قُدّمت في الطوفان هي تضحيات عزيزة ومستحقّة، ويتحمل مسؤوليتها أصحابها في أنهم قدّموا نموذجاً للصمود والصبر والثبات والإيمان لم تقدّمه الأمّة العربية منذ سنوات كما قدّمه أبطال غزة وأبطال جنوب لبنان وأبطال اليمن. وكل جريمة وقعت في قطاع غزة يتحمّل مسؤوليتها اليوم، سياسياً وقانونياً وأخلاقياً، الكيان وداعموه.

ودفع ثمن هذه الجرائم بدأ من غزة بيد المقاومين هناك، وأيضاً يدفع الكيان الثمن في كل زاوية من زوايا هذا العالم وباعتراف أكبر داعمي هذا الكيان دونالد ترامب وإدارته الحالية، الذي يعترف في كل مرة يتطرق فيها إلى موضوع الحرب على غزة بأن إسرائيل تدفع ثمناً باهظاً، وأنه يعمل على مساعدة قادة هذا الكيان على إدارة المعركة بما يقلّل من خسائره العميقة التي يدركها رموز الإدارة الأميركية وأجهزتها الأمنية أكثر من غيرهم.

وبعد عامين من الطوفان المجيد، يمكن أن يوصف ما يحصل بالكثير من الأوصاف، بأنها جرائم حرب أو جرائم إبادة أو ما شابه، ولكنّ الوصف الأساسي الذي لا يستطيع أحد أن يصف به ما يحدث في غزة أن هذا الكيان انتصر وأن المقاومة انهزمت. هذا لم يحدث. والمعركة ما زالت مستمرة وتتخذ صنوفاً متعددة. ومحاولات إدارة ترامب الأخيرة تقديم مبادرات ملتحفة بمجموعة الدول العربية والإسلامية التي ساندت هذه الخطوات هي دليل على عجز دولة الكيان على حسم هذه المعركة أولاً، وعجز رموز إدارة ترامب على إدارة الأزمة.

هذا الاصطفاف الأميركي مع الدول العربية والإسلامية التي ساندت خطة ترامب إذا ما تمّت مواجهته من قبل المقاومة الفلسطينية واستطاعت أن تحتوي هذا الضغط وأن تصمد في وجهه له ما بعده لصالح «الطوفان» وتعميق إنجازاته. وليس كما تخوّف هذه الدول قادة المقاومة.

إنّ «طوفان الأقصى» لم يكن مواجهة عسكرية فحسب، بل كان تحوّلاً في الوعي الجمعي، يدفع العالم لإعادة رسم خرائط التحالفات والشرعيات. من رحم الألم والتضحية، وُلد وعيٌ جديد، يُعيد ترتيب مواقف الشعوب والقوى العالمية. هذا هو «عالم ما بعد الطوفان».

* كاتب وباحث فلسطيني

الكلمات المفتاحية
مشاركة