مقالات

في مشهدٍ وطنيٍّ مهيبٍ، احتشد آلاف الفتية والفتيات في المدينة الرياضية في بيروت، ضمن المهرجان الكشفي الأكبر الذي نظمته جمعية كشافة الإمام المهدي، في لوحةٍ بشريةٍ اتسمت بالتنظيم والانضباط والرمزية العالية. لم يكن الحدث مجرّد عرض كشفي أو احتفال داخلي، بل رسالة متعددة الأوجه، موجهة للداخل اللبناني كما للخارج، تحمل في طياتها دلالات سياسية وثقافية تتجاوز الطابع الاحتفالي.
تأكيد على الثبات وبناء الأجيال
المهرجان حمل عنوانًا غير معلن لكنّه واضح في مضمونه: "جيلًا بعد جيل، الوعي مستمر والمقاومة باقية". فكلّ تفصيلٍ في العرض -من الانضباط الميداني إلى الشعارات المرفوعة والأناشيد المؤداة- كان يهدف إلى ترسيخ فكرة أن المقاومة لم تعد مجرد فعلٍ عسكري، بل أصبحت منظومة قيمٍ متكاملة تُبنى في الوعي منذ الطفولة.
الرسالة الداخلية كانت صريحة: أن بيئة المقاومة ليست محصورة بجبهات القتال، بل تمتد إلى ميادين التربية والتعليم والكشافة والإعلام، حيث يُصاغ وعي الأجيال الجديدة على مفاهيم الانتماء والكرامة والسيادة.
رمزية التوقيت والمكان
اختيار المدينة الرياضية في بيروت لم يكن صدفة. فالمدينة التي احتضنت محطات مفصلية في التاريخ اللبناني الحديث، تحوّلت ليومٍ كامل إلى فضاء يُعبّر عن وحدة الجيل المقاوم في وجه كلّ مشاريع التفتيت والتطبيع.
وفي ظل ما يعيشه لبنان من ضغوط اقتصادية وسياسية، جاء المهرجان كرسالة صمود جماعي تؤكد أن مشروع المقاومة لا يتأثر بالأزمات العابرة، بل يزداد رسوخًا كلما اشتدت الضغوط.
الرسالة للخارج: المقاومة مشروع وعي لا يُهزم
على المستوى الخارجي، بدا المهرجان أشبه ببيانٍ سياسي موجّه بلغته الكشفية. فالانضباط والتنظيم اللذان شهدهما الحدث عكسا نموذجًا لـ"المجتمع المقاوم" المتماسك، الذي لا ينهار أمام الضغوط أو التهديدات.
وللكيان "الإسرائيلي" تحديدًا، حملت الصور واللقطات رسالة مزدوجة: أولًا، أن المقاومة باتت ثقافةً شعبية متجذرة يصعب اقتلاعها، وثانيًا، أن هذا الجيل الذي تربّى في الكشافة لن يكون جيلًا تائهًا أو متأمركًا، بل جيلًا مدركًا لتاريخه وعدوه وحدود وطنه.
كيف قرأ الإعلام "الإسرائيلي" المشهد؟
تناولت وسائل إعلام ومراكز استخبارات العدوّ "الإسرائيلي" المهرجان بقلقٍ واضح، معتبرةً أن أنشطة مثل تلك التي ظهرت في "أجيال السيد" تمثل خطرًا إستراتيجيًا طويل الأمد على الكيان، لأنها تساهم في بناء وعي مقاوم متوارث عبر الأجيال.
مواقع صهيونية عدّة، بينها تحليلات صادرة عن مراكز دراسات أمنية، وصفت الكشافة بأنها "المعمل الصامت لتنشئة المقاومين"، وأنها تشكّل استثمارًا في الوعي لا يقل خطورة عن الاستثمار في السلاح. فالمقاومة، وفق القراءة الصهيونية، بدأت تنتقل من "الميدان العسكري" إلى "الميدان التربوي"، حيث يتم تشكيل الوجدان الجمعي على قيم التضحية والانتماء والمواجهة.
وفي المقابل، تحدثت تقارير صهيونية وغربية عن محاولات للتأثير على وعي أبناء الكشافة عبر الفضاء الرقمي، من خلال الهواتف الذكية والتطبيقات والمنصات الاجتماعية، في إطار ما يسمّى "حرب الوعي". هذه الحملات -كما تُظهر بعض الوثائق الإعلامية- تهدف إلى تفكيك صورة المقاومة داخل عقول الشباب، عبر بث أفكار تُغريهم بالنزعة الفردية، والانفصال عن الهوية الجماعية، والتقليل من قيمة الالتزام العقائدي أو النضالي.
لكن المشهد الميداني الذي رآه العالم في بيروت شكّل، بحد ذاته، ردًّا حيًّا على تلك الحرب الناعمة، إذ أثبت أن الوعي المقاوم ما زال يتجذر رغم كلّ أدوات التشويش الرقمية والإعلامية.
أجيال تصنع المستقبل
في نهاية المهرجان، وبينما ارتفعت الرايات وتردّدت الأناشيد، بدت الرسالة واضحة: أن مشروع المقاومة في لبنان لم يعد حكرًا على الكبار، بل أصبح إرثًا وطنيًا وثقافيًا تتوارثه الأجيال.
لقد نجح المهرجان الكشفي الأكبر في تحويل ساحة بيروت إلى مرآةٍ لمستقبلٍ يُراد له أن يبقى ثابتًا في وجه محاولات الاختراق والتطويع، مؤكّدًا أن بناء الوعي المقاوم هو السلاح الأقوى في معركة الوجود والهوية.