اهلا وسهلا...
موقع العهد الاخباري

كانت البداية في 18 حزيران/ يونيو 1984 في جريدة اسبوعية باسم العهد، ومن ثم في 5 تشرين الثاني/ نوفمبر 1999 أطلقت النسخة الاولى من جريدة العهد على الانترنت إلى ان أصبحت اليوم موقعاً إخبارياً يومياً سياسياً شاملاً

للتواصل: [email protected]
00961555712

المقال التالي فضل الله من شقراء وعيناثا: الحكومة تتجاهل ما يحصل في الجنوب 

مقالات

استمرار الحرب... انكشاف لحدود القوة وانتصار الإرادة
مقالات

استمرار الحرب... انكشاف لحدود القوة وانتصار الإرادة

81

أهم ما يُميز الحروب الحديثة دورها في إعادة تعريف المفاهيم السياسية والأمنية والأخلاقية، والتي تستند إليها الأمم. والحرب على غزة، والتي امتدت عامين متواصلين من القتل والتدمير والإبادة، ليست مجرد مواجهة عسكرية تقليدية، هي اختبار شامل لمنظومة القيم التي يقوم عليها النظام الدولي ولطبيعة العقيدة الأمنية "الإسرائيلية"، في عصر الانكشاف الأخلاقي والاستراتيجي.

لعل السؤال الأعمق هو: لماذا استمرت الحرب؟ أو بعبارة أخرى ما الذي جعل استمرارها ممكنًا، على الرغم من تناقضه مع مبدأ الردع الذي يشكّل جوهر الأمن "الإسرائيلي"؟

الجواب يكمن في تفاعل شبكة معقدة من العوامل البنيوية والسياسية والنفسية، والتي تضافرت لتجعل الحرب ظاهرة ممتدة تتغذّى من ذاتها، أكثر مما تتغذّى من أهدافها المعلنة.

الأهداف الطموحة بعد "طوفان الأقصى"

حين نفّذت حركة حماس عملية "طوفان الأقصى"، في 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023، واجهت "إسرائيل" صدمة وجودية كشفت هشاشة منظومتها الأمنية. إذ جاء الردّ "الإسرائيلي" مشحونًا بعوامل انتقامية ونفسية وإيديولوجية دفعت القيادة السياسية والعسكرية إلى رفع سقف الأهداف إلى حدّ الاستحالة: القضاء على حماس، تغيير الواقع السياسي في غزة جذريًا، وتهجير السكان.

بهذا التحوّل، خرجت الحرب من منطق "الردع" إلى منطق "الإبادة"، ومن عملية محدودة إلى مشروع استئصال مفتوح لا يحدّه الزمن، ولا يقيّده القانون. لكنّ هذا التوسّع في الاهداف جعل الهزيمة احتمالًا ملازمًا لأيّ توقف، إذ إنّ تحقيق "الاستئصال الكامل" كان يعني إنجازًا لا يمكن بلوغه، في ظل الصمود الفلسطيني. وبذلك؛ تحوّلت الحرب إلى نظام ذاتي التشغيل؛ حرب تستمر؛ لأنّ نهايتها باتت تعني هزيمة قبل أن تكون ميدانية.

الدعم الأميركي المفتوح وتفكّك مفهوم "الساعة الدولية"

لم يكن استمرار الحرب ممكنًا من دون المظلّة الأميركية التي وفّرت لــ"إسرائيل" دعمًا غير مشروط على المستويات كافة. إذ تحوّلت واشنطن من راعٍ إلى شريك مباشر في القرار العسكري والسياسي، ومانحة "إسرائيل" ضوءًا أخضر غير محدود وحماية دبلوماسية في مجلس الأمن حالت دون أيّ وقف ملزم لإطلاق النار. لقد ألغى هذا الدعم أحد أهم عناصر ضبط السلوك الإسرائيلي المعروف بـ"الساعة الدولية" — أي إدراك "إسرائيل" للحدود الزمنية التي يسمح بها المجتمع الدولي قبل التدخل لوقف الحرب. وفي حرب غزة، تعطّلت هذه الساعة تمامًا، فغابت فكرة الزمن السياسي للحرب، وحلّت مكانها زمنية غير نهائية تحكمها الحسابات الأميركية- "الإسرائيلية" المشتركة، لا المعايير الإنسانية أو القانونية.

الخذلان العربي: غياب الفعل وحضور العجز

لم يكن الغطاء الأميركي كافيًا لولا الصمت العربي. إذ أتاح الخذلان العربي، سواء الرسمي أم الشعبي، لـــ"إسرائيل" مساحة نفسية وسياسية واسعة لتوسيع عملياتها. إذ إن العواصم المؤثرة اكتفت ببيانات رمادية وتحركات دبلوماسية هامشية، في حين تحوّل بعض الأنظمة إلى وسطاء بين الضحية والجلاد!.. الخذلان هنا ليس موقفًا سلبيًا فحسب، هو عامل بنيوي في إطالة أمد الحرب؛ لأنه منح "إسرائيل" شعورًا بالأمان السياسي وحرّرها من أيّ قيد إقليمي. لقد أصبحت المأساة الفلسطينية حدثًا متكررًا، لا أزمة تهزّ الإقليم، ما سمح بتحويل الإبادة إلى ممارسة يومية عادية في المشهد العربي.

صمود المقاومة

في مقابل هذا الانفلات "الإسرائيلي"، واجهت المقاومة الواقع بمرونة تكتيكية واستراتيجية جعلت الحرب تتحول إلى صراع استنزاف للعدو طويل المدى: الأنفاق، المناورات الميدانية، إعادة التموضع بعد كل اجتياح.. جعلت جيش الاحتلال غارقًا في حرب لا يمكن حسمها، ولا الخروج منها بكرامة. وتبلور في ضوء ذلك معادلة جديدة: كلما فشلت "إسرائيل" في تحقيق حسم سريع، لجأت إلى توسيع العمليات، ما أعاد إنتاج الحرب حاجةً سياسيةً داخلية في "إسرائيل"، لا وسيلةً لتحقيق هدف عسكري.

في الصمود الشعبي تحوّل المجتمع إلى فاعل استراتيجي

أظهرت غزة نموذجًا فريدًا، في التاريخ المعاصر، لمجتمع يتحول إلى فاعل استراتيجي في الحرب؛ فلم ينهَر النسيج الاجتماعي على الرغم من الجوع والدمار، بل ازداد تماسكًا حول المقاومة. وهنا تكمن المفارقة: "إسرائيل" التي أرادت كسر "الروح الجماعية" للمجتمع الغزّي، وجدت نفسها أمام مجتمع يعيد إنتاج المعنى الوطني في قلب الكارثة. لقد انتقلت الحرب من مستوى الجغرافيا إلى مستوى الوعي الجمعي، ومن ميدان المعركة إلى ميدان الإرادة، فتحولت كل مجزرة إلى طاقة معنوية مضادة تسند مشروع البقاء والمقاومة.

في سياق متصل، أسهمت جبهات الإسناد لمحور المقاومة في إعادة تعريف المعركة على أرض فلسطين إلى حلقة في صراع إقليمي مركّب. بهذا المعنى؛ لم يكن طول مدة الحرب دليلًا على عجز المقاومة بقدر ما كان مؤشرًا على دخول المنطقة في مرحلة إعادة تشكيل ما يتجاوز حدود غزة.

في الخلاصة، لقد أظهرت حرب غزة، في امتدادها الزمني الكارثي، أن الحروب في العصر الحديث لم تعد تُدار فقط بالسلاح، أيضًا، بالمعنى؛ فهي لم تكن حربًا على قطاع جغرافي، بل على الرمز الإنساني والسياسي للمقاومة.. ولم تكن مجرد فشل في الردع، إنما انكشاف لنهاية المفهوم الإسرائيلي للأمن نفسه، والذي فقد توازنه حين سعى إلى الأمن عبر الإبادة.

إنّ استمرار الحرب عامين لم يكن عرضًا عابرًا، بل نتيجة تحوّل بنيوي في بنية الصراع بين مشروع يسعى إلى الهيمنة الكاملة، ومجتمع يصنع شرعيته من قدرته على الصمود. لقد أثبتت غزة أن القوة لا تقاس بالقدرة على التدمير، بل بالقدرة على الصمود. وأنّ أحد أهم أوجه هزيمة "إسرائيل" الحقيقية لم تكن في ساحة المعركة؛ بل في انهيار سرديتها الأخلاقية أمام عالمٍ يشهد انكشاف زيف "حضارته" أمام مجازر القرن الواحد والعشرين.

الكلمات المفتاحية
مشاركة