خاص العهد

بملامحٍ اختزلت وجع السنين، خرج الأسير الفلسطيني ماهر حمدي رشدي الهشلمون من سجون الاحتلال الصهيوني، بعد أن أمضى 11 عامًا من الأسر في زنازين العدو، على خلفية تنفيذه عملية بطولية عند مفترق "عتصيون" جنوب بيت لحم في العاشر من تشرين الثاني/نوفمبر عام 2014، أسفرت عن مقتل مستوطِنة وإصابة اثنين آخرَين.
الهشلمون يروي لحظة الحرية ويوجّه رسالة وفاء لغزة
في حديثٍ لموقع العهد الإخباري، عبّر الهشلمون عن مشاعرَ إنسانيةٍ عميقة تتقاطع فيها رهبة اللقاء بالحرية مع دموع السجود والشكر لله تعالى، فقال: "أنا الأسير المحرر بفضل الله وكرمه؛ ماهر حمدي رشدي الهشلمون من مدينة الخليل. تحررت بعد قضاء 11 عامًا في المعتقل، وشعوري لا يُشبِه أي شعورٍ في حياتي. أول ما يخطر في القلب هو الحاجة المُلِحّة للسجود والبكاء بين يدي الله عز وجل على هذا العطاء الإلهي وهذه المنحة الربانية. الحمد لله الذي نجّانا من القوم الظالمين، وأحياني بعدما أماتني، ومنحني ميلادًا جديدًا وحياةً أخرى لا توصف".
وأضاف: "ما زلت أشعر كأنني أعيش في غيبوبةٍ من الفرح. الكلمات عاجزة عن وصف ما يعتمل في صدري من مشاعر الفخر والعزّة والاشتياق، مشاعر تختلط فيها دموع الفرح بحنينٍ جارفٍ إلى الأهل والوطن، وإلى أولادي الذين لم ألمس وجوههم منذ سنين".
لم ينسَ الهشلمون رفاقه الذين تركهم خلف القضبان، فحدّث عنهم بحرقةٍ قائلًا: "أكثر ما يكسر الظهر هو أن تترك خلفك رجالًا من ذهب. تركت في السجن هاماتٍ وقاماتٍ يعجز اللسان عن وصفها؛ رجالًا عظماء نذروا أعمارهم لله وللوطن. نسأل الله عز وجل أن يفرّج عنهم كما فرّج عنا، وأن يروا النور والحرية القريبة بإذن الله".
وفي وصفه لسنوات الاعتقال، ولا سيما العامين الأخيرين، قال الأسير المحرر: إنها "كانت الأصعب في تاريخ الحركة الأسيرة، لكنها أيضًا الأعمق أثرًا، حيث تجلّى فيها الإيمان بأبهى صوره"، وأضاف: "كانت سنتين من البلاء الشديد، ولكنها كانت أيضًا من أجمل السنوات؛ لأنها كشفت معادن الرجال وصقلت النفوس وميّزت الخبيث من الطيب. رأينا في تلك الأيام كيف تتحوّل المحنة إلى منحة، وكيف يشتد عود الإيمان حين تضيق الزنازين".
وأضاف أن تجربة الأسر شكّلت مدرسةً إيمانيةً خالدة: "تعرّفنا فيها الله عز وجل أكثر، وذقنا لذة الإيمان الحقيقي، وفهمنا أسرار النعمة، وتدبرنا آيات القرآن الكريم بقلوبٍ ألين وأقرب إلى اليقين".
وفي ختام حديثه، وجّه الهشلمون رسالة حبٍّ وتقديرٍ إلى أهل غزة الأبطال الذين يواجهون العدوان بصمودٍ أسطوري، فقال: "إلى هذا الشعب العظيم الذي قدّر الله له أن تتحطم على صخرته كل المؤامرات، نقول: بارك الله فيكم وجزاكم الله عنا كل خير. أنتم العنوان الذي لم يُمحَ من ذاكرة الأمة، وأنتم خط الدفاع الأول عن كرامتنا وحقنا. ما من كلماتٍ تفيكم قدركم، فأنتم المجد المتجدد في زمن الانكسار".
أبو بطيخ: التعذيب تصاعد في العامين الأخيرين وتحوّلت السجون إلى "مسلخ بشري"
بدوره، روى الأسير الفلسطيني المحرّر محمد أبو بطيخ لموقعنا تفاصيل مؤلمة عن معاناة الأسرى الفلسطينيين داخل سجون الاحتلال، كاشفًا عن تصاعدٍ غير مسبوق في أساليب القمع والتعذيب منذ اندلاع الحرب على قطاع غزة.
وقال أبو بطيخ الذي أفرج عنه بعد أن أمضى خمسةً وعشرين عامًا في الأسر: "إنّ السنوات الأخيرة كانت الأقسى على الإطلاق، إذ تحوّلت السجون إلى "مسلخٍ بشريّ" تُمارس فيه سلطات الاحتلال أبشع صنوف الإهانة والإذلال".
وأضاف: "قضيت أكثر من 25 عامًا في سجون الاحتلال على مرحلتين، لكن العامين الأخيرين فاقا كلّ ما مرّ علينا من ظلم واضطهاد، فقد كان التعذيب جسديًا ونفسيًا بشكل يومي، والطعام والنوم والتعامل مع السجّان؛ كلّها تحوّلت إلى عذاب مستمر".
وأوضح أنّ إدارة السجون الصهيونية باتت خاضعة بالكامل لقرارات الوزير المتطرّف إيتمار بن غفير الذي "يتعامل مع الأسرى كالحيوانات ويصفهم بالحشرات، ولا يعترف بإنسانيتهم". وتابع: "بن غفير هو من فجّر كلّ هذا الحقد داخل السجون، وكان السبب المباشر في اشتداد العدوان على غزة؛ لأنّ ممارساته القمعية كانت وقودًا لغضب المقاومة".
وأشار أبو بطيخ إلى أنّ الأسرى كانوا يعيشون على أمل الحرية، خاصة كبار السنّ والمحكومين بالمؤبّدات، إلا أنّهم تفاجؤوا في اللحظات الأخيرة بأنّ صفقة التبادل الأخيرة لم تشملهم. وأضاف بأسى: "خرجنا وتركنا خلفنا إخوةً أمضوا أكثر من ثلاثين عامًا، بعضهم تجاوز الثمانين من عمره، وكانوا يظنّون أن موعدهم مع الحرية قد حان، لكن الاحتلال أصرّ على إبقائهم رهائن في سجونه".
ولفت إلى أنّ الاحتلال مارس تمييزًا واضحًا بين الأسرى من الضفة الغربية وأولئك من قطاع غزة، قائلًا: "كان العذاب مضاعفًا لأسرى غزة، فبمجرد أن تكون هويتك من هناك، تصبح هدفًا للانتقام. لا يهمّ إن كنت من حماس أو الجهاد أو حتى بلا انتماء، فمجرد كونك من غزة كافٍ ليكون نصيبك أضعاف ما نلقاه نحن من قهرٍ وتعذيب".
وتابع الأسير المحرّر شهادته: "كنا نسمع صرخات أسرى غزة في سجن نفحة ليلًا، أصوات التعذيب والغاز والكلاب والضرب الوحشي، ولا نملك سوى الدعاء لهم. كانوا يرسمون لهم حيواناتٍ على الجدران ويأمرونهم بأن يركبوها في مشهدٍ لا يمكن أن يصدّقه عقل".
ورغم هذا الجحيم، أكد أبو بطيخ أنّ الأسرى الفلسطينيين بقوا متماسكين، موحّدين صفوفهم في وجه السجّان، بعدما تخلّصوا من آثار الانقسام الداخلي الذي فُرض عليهم منذ عام 2007. ويقول: "في العامين الأخيرين توحّد الأسرى جميعًا، من فتح وحماس والجهاد والشعبية والديمقراطية، وأصبحوا صفًا واحدًا في مواجهة الاحتلال".
وختم الأسير المحرّر محمد أبو بطيخ حديثه قائلاً: "رغم كلّ ما مررنا به من عذاب، لن تنكسر إرادتنا، ولن نتراجع عن حقنا في الحرية. الأسرى الذين بقوا خلف القضبان هم أمانة في أعناق المقاومة، ولن يرتاح لنا بال حتى نراهم أحرارًا ".