مقالات
قراءة في الدوافع الخفية وراء سياسة واشنطن تجاه فنزويلا
منذ تولي الرئيس الأميركي دونالد ترامب ولايته الأولى، اتّخذت واشنطن موقفًا تصعيديًا متزايدًا تجاه نظام نيكولاس مادورو في فنزويلا، حتّى وصلت السياسة الأميركية إلى مرحلة غير مسبوقة من الضغط الاقتصادي والدبلوماسي والاستخباراتي، ما اعتبره مراقبون خطة صريحة لإسقاط النظام.
لكن، ما الذي يقف خلف هذا القرار؟ وهل كان الدافع ديمقراطيًا خالصًا، أم أنّ المصالح الاقتصادية والجيوسياسية كانت المحرّك الحقيقي؟
أولًا: النفط.. القلب الاقتصادي للصراع
تمتلك فنزويلا أكبر احتياطي نفطي مؤكد في العالم عبر شركتها الوطنية PDVSA، وهو ما جعلها محور اهتمام دائم في السياسة الأميركية.
تشير دراسات لمعهد “بايكر” بجامعة رايس إلى أن إدارة ترامب استخدمت العقوبات النفطية أداةً إستراتيجية لخنق النظام ماليًا، عبر تجميد حساباته الخارجية ومنع الشركات الأميركية من التعامل مع قطاع الطاقة الفنزويلي.
في شباط ٢٠٢٥، ألغى ترامب ترخيص شركة Chevron الأميركية التي كانت تعمل في فنزويلا، مبررًا قراره بأن حكومة مادورو لم تلتزم بالإصلاحات الانتخابية ولم تتعاون في ملف المهاجرين.
وقد شكّل هذا القرار ضربة قاسية للاقتصاد الفنزويلي، إذ كانت شيفرون مسؤولة عن نحو ربع إنتاج النفط في البلاد.
تحليلات أخرى، مثل تقرير موقع MR Online، ترى أن الهدف الأميركي لم يكن فقط الضغط على النظام، بل أيضًا إعادة تموضع النفوذ الأميركي في سوق النفط بعد تمدد روسيا والصين في قطاع الطاقة الفنزويلي.
ثانيًا: الهجرة والمخدرات.. المبرر الأمني
ربطت إدارة ترامب بين فنزويلا وبين تدفقات المخدرات والمهاجرين غير النظاميين إلى الولايات المتحدة.
في تصريحات علنية، قال ترامب إن فنزويلا “أفرغت سجونها وأرسلت المجرمين إلى أميركا”، مستندًا إلى رواية مشابهة استخدمها ضدّ المكسيك.
كما أكدت مصادر أمنية أن الرئيس الأميركي فوّض وكالة الاستخبارات المركزية (CIA) بتنفيذ عمليات داخل الأراضي الفنزويلية، تحت ذريعة مكافحة تهريب المخدرات وحماية الأمن القومي الأميركي.
غير أن تقارير لاحقة أوضحت أن الأدلة على تورط مباشر للنظام الفنزويلي في تجارة المخدرات غير حاسمة، مما جعل هذا التبرير محل تشكيك واسع.
ثالثًا: البُعد السياسي والانتخابي
لم يكن التصعيد الأميركي تجاه فنزويلا منفصلًا عن الاعتبارات الداخلية الأميركية.
فولاية فلوريدا، ذات الكتلة الانتخابية الكبيرة، تضم جالية فنزويلية وكوبية قوية التأثير تميل إلى دعم أي سياسة متشددة ضدّ أنظمة اليسار في أميركا اللاتينية.
لذلك، تبنّت إدارة ترامب خطابًا سياسيًا حادًا ضدّ ما سمّاه مستشار الأمن القومي آنذاك جون بولتون بـ "مثلث الطغيان" (فنزويلا، كوبا، نيكاراغوا)، في محاولة لكسب تأييد هذا اللوبي الانتخابي المؤثر.
رابعًا: المنافسة الجيوسياسية
على الصعيد الدولي، مثّلت فنزويلا ساحة تنافس مفتوحة بين واشنطن وموسكو وبكين.
فروسيا قدمت دعمًا عسكريًا وتقنيًا لحكومة مادورو، بينما استثمرت الصين مليارات الدولارات في قطاع الطاقة والبنى التحتية.
في المقابل، رأت واشنطن أن إسقاط النظام أو إضعافه سيعيد التوازن لنفوذها في “حديقتها الخلفية” التاريخية، أي أميركا اللاتينية.
خامسًا: أدوات التنفيذ
١ - العقوبات الاقتصادية: شملت النفط، والذهب، والتجارة الخارجية، والأصول الحكومية.
٢ - إلغاء التراخيص: مثل ترخيص "شيفرون"، ما أوقف جزءًا كبيرًا من الإنتاج النفطي.
٣ - الضغط الدبلوماسي: دعم علني للمعارض خوان غوايدو واعتباره "رئيسًا مؤقتًا" للبلاد.
٤ - العمليات الاستخباراتية: تفويض الـ CIA بتنفيذ عمليات ميدانية في فنزويلا.
٥ - استخدام ورقة الهجرة: ربط التفاهمات حول إعادة المهاجرين بالقبول بإصلاحات سياسية داخلية.
النتائج: نظام باقٍ وشعب منهك
رغم كلّ الضغوط، لم يسقط النظام الفنزويلي، بل عزز من قبضته الأمنية والعسكرية.
إلا أن الخاسر الأكبر كان الشعب الفنزويلي، الذي واجه انهيارًا اقتصاديًا مريعًا وهجرة جماعية هي الأكبر في تاريخ أميركا الجنوبية الحديث.
كما واجهت السياسة الأميركية انتقادات واسعة داخل الكونغرس ومراكز الفكر في واشنطن، حيث اعتُبر أن الضغط الأقصى أنتج نتائج عكسية، إذ أدى إلى إضعاف الاقتصاد والمجتمع، دون تحقيق أي انتقال سياسي فعلي.
خلاصة
قرار إدارة ترامب بإسقاط نظام مادورو لم يكن نابعًا من دافع واحد، بل من مزيج معقّد من المصالح:
اقتصادية (النفط وإعادة النفوذ الأميركي في سوق الطاقة)
أمنية (الهجرة والمخدرات)
انتخابية داخلية (اللوبي اللاتيني في فلوريدا)
جيوسياسية (منافسة مع روسيا والصين)
إلا أن النتيجة النهائية كانت عكس ما خُطط له:
فالنظام بقي، والشعب ازداد معاناة، وأثبتت الأزمة أن سياسة “الإسقاط من الخارج” ليست بديلًا عن الحلول الدبلوماسية والاقتصادية المتدرجة.