اهلا وسهلا...
موقع العهد الاخباري

كانت البداية في 18 حزيران/ يونيو 1984 في جريدة اسبوعية باسم العهد، ومن ثم في 5 تشرين الثاني/ نوفمبر 1999 أطلقت النسخة الاولى من جريدة العهد على الانترنت إلى ان أصبحت اليوم موقعاً إخبارياً يومياً سياسياً شاملاً

للتواصل: [email protected]
00961555712

المقال التالي "رويترز": سومو العراقية تستعد لطرح أكثر من 6 ملايين طن من زيت الوقود

مقالات

نتنياهو يفقد حق الحرب: القرار الأمني
مقالات

نتنياهو يفقد حق الحرب: القرار الأمني "الإسرائيلي" بيد البيت الأبيض

86

منذ نشأة الكيان الصهيوني، كان أحد أعمدة روايته الإستراتيجية يقوم على مفهوم "الاستقلال الأمني"، أي حقه في تقرير متى وأين وكيف يشنّ الحرب. هذا المبدأ لم يكن مجرّد شعار عسكري، بل كان جوهر "السيادة الإسرائيلية" كما رآها قادتها منذ بن غوريون حتّى نتنياهو. لكنّ ما يجري اليوم تحت إدارة دونالد ترامب يمثّل انقلابًا على هذا الإرث؛ انقلابًا لم تصنعه "تل أبيب"، بل فُرض عليها من واشنطن، حين قررت الإدارة الأميركية أن تسحب من يد بنيامين نتنياهو "حق الحرب"، وتجعل القرار الأمني "الإسرائيلي" جزءًا من وصايتها المباشرة على المنطقة.

من شريك إلى خاضع

للمرة الأولى، ينفق البيت الأبيض رصيدًا سياسيًا ضخمًا في مواجهة حليفه المقرّب، لا خصومه. أنشأ ترامب سلطة إدارية أميركية في القدس، لا تبعد سوى كيلومترات قليلة عن مقر إقامة نتنياهو، لتكون بمثابة "مركز تحكم" في العمليات العسكرية داخل غزّة. الظاهر من الأمر هو "تنسيق العمليات"، أما حقيقته فهو ممارسة رقابة مباشرة على قرارات رئيس الوزراء "الإسرائيلي"، وضبط نزقه العسكري الذي تراه واشنطن تهديدًا للاستقرار الإقليمي، وللمصالح الأميركية في "الشرق الأوسط".

لم تعد "إسرائيل" تصوغ سياساتها الحربية بمعزل عن الوصاية الأميركية، بل باتت، كما وصف المحلل العسكري عاموس هاريل، "تلتزم بالقواعد التي تضعها واشنطن". هذا التحوّل، كما يراه المراقبون، ليس مجرد إجراء ظرفي لضمان الهدنة، بل هو إعادة هندسة كاملة لعلاقة القوّة بين الراعي والتابع. للمرة الأولى، تحكم أميركا قبضتها على الزناد "الإسرائيلي"، وتفرض رقابة على ما كان يُعدّ سابقًا "حقًا سياديًا مقدسًا" في الأمن "الإسرائيلي".

الهدنة التي كشفت العري

في 10 تشرين الأول/أكتوبر، وبعد عامين من حرب "إسرائيلية" مفتوحة ضدّ غزّة، بدا أن العالم قد وصل إلى حافة الانفجار. ضغط ترامب بكلّ ثقله السياسي والإعلامي لفرض وقف إطلاق النار، ثمّ شرع في حمايته كما لو كان مشروعه الشخصي. لكن مع أول خرق "إسرائيلي" للاتفاق، تبيّن للبيت الأبيض أن الخطر الحقيقي ليس في غزّة، بل في "تل أبيب" نفسها. فنتنياهو، الغارق في أزماته الداخلية ومحاكماته، وجد في استمرار الحرب وسيلة لتأجيل مصيره السياسي والقضائي، ووسيلة لإبقاء اليمين المتطرّف حوله موحدًا خلف شعار "الأمن القومي".

إدارة ترامب قرأت هذه الحسابات جيدًا. ولذا، لم تتردّد في إنشاء آلية رقابة ميدانية على "الجيش الإسرائيلي"، تتدخل في التوقيت والهدف والنطاق. هذا الشكل الجديد من "الإدارة المشتركة" للحرب، وإن بدا في ظاهره تعاونًا إستراتيجيًا، إلا أنه في جوهره إلغاء تدريجي للسيادة "الإسرائيلية" على قرار الحرب والسلام وشراكة كاملة في المسؤولية عنها.

ترامب لم يُخفِ هذا التوجّه. ففي تصريحاته العلنية، وصف نتنياهو بأنه "قائد نزق، يهوى الحروب لحماية نفسه". وهو توصيف صادم من رئيس أميركي تجاه زعيم يُفترض أنه "الحليف الأقرب" في "الشرق الأوسط". غير أن هذا التوصيف لم يكن انفعالًا إعلاميًا؛ بل تبريرًا مسبقًا لسياسة وضع "إسرائيل" تحت الوصاية العسكرية الأميركية.

فقدان الثقة الأميركية

منذ عقود، كانت واشنطن تمنح "إسرائيل" شيكًا مفتوحًا في استخدام القوّة، طالما أن ذلك يخدم المصالح المشتركة. أما اليوم، فإن الإدارة الأميركية لم تعد تثق في تقديرات نتنياهو. فقد باتت ترى في قراراته انعكاسًا لأزماته الشخصية أكثر من كونها دفاعًا عن "إسرائيل". ولهذا، كما تذكر "نيويورك تايمز"، تحرّكت واشنطن دبلوماسيًا وعسكريًا لحماية الهدنة بنفسها، مانعة نتنياهو من نسفها خدمةً لبقائه في السلطة.

ترامب يدرك أن استمرار الحرب في غزّة لم يعد يخدمه، بل صار عبئًا على صورته كرئيس يسعى إلى إظهار نفسه كصانع سلام صلب. لذلك، تحوّل من داعم مطلق لـ"تل أبيب" إلى رقيب مباشر على سلوكها العسكري. وبدا واضحًا أن "القلق الأميركي" من نتنياهو تخطّى حدود التصريحات إلى خطوات عملية: من منع تنفيذ ضربات ضدّ إيران، إلى إجبار "تل أبيب" على الاعتذار لقطر بعد غارة فاشلة، إلى إصدار أوامر مباشرة بوقف الغارات على غزّة في أيلول/سبتمبر.

كل ذلك يعكس ما يمكن تسميته بـ"التأميم الأميركي للقرار العسكري الإسرائيلي"؛ أي انتقاله من يد القيادة السياسية في "تل أبيب" إلى إدارة عسكرية-سياسية أميركية تعمل من القدس بإشراف البيت الأبيض.

منطقة رمادية بين الحليف والتابع

هذا التغيير الجذري أحدث صدمة داخل المؤسسة الأمنية "الإسرائيلية". فالقادة العسكريون، كغادي آيزنكوت، وصفوا علنًا ما يجري بأنه "إشكالي للغاية"، مؤكدين أن العمليات تُدار من الخارج، وأن "الجيش الإسرائيلي" بات مقيدًا بدخول القوات الدولية إلى الميدان. في الجوهر، لم تعد "إسرائيل" قادرة على خوض حرب دون إذن أميركي، وهو ما يعني أنها فقدت فعليًا جزءًا من سيادتها الإستراتيجية.

يائير لبيد، زعيم المعارضة، صاغ ذلك بوضوح حين قال إن نتنياهو "حوّل "إسرائيل" إلى محمية تتلقى الإملاءات الأمنية من واشنطن". ومع ذلك، فإن جزءًا من المؤسسة السياسية "الإسرائيلية" يرى أن هذه الوصاية قد تكون "شرًا ضروريًا"، لأنها تُبقي على الدعم الأميركي المالي والعسكري، وتحمي "تل أبيب" من مغامرات زعيمها المأزوم.

نتنياهو بين الحرب والمحاكمة

يعرف ترامب أن نتنياهو لا يقاتل فقط دفاعًا عن "أمن إسرائيل"، بل دفاعًا عن نفسه. فمنذ 2020، يقف أمام ثلاث قضايا فساد متشابكة، تتعلق بتلقي الهدايا، والتلاعب بالإعلام، وتعطيل العدالة. الحرب بالنسبة له لم تكن سوى أداة لتأجيل المحاكمة، وتوحيد صفوف اليمين حوله. لذلك، حين زار ترامب "الكنيست" مؤخرًا، لم يخفِ مقصده الحقيقي: طلب من الرئيس "الإسرائيلي" أن يمنح نتنياهو عفوًا رئاسيًا، لإزالة دافع الخوف الذي يدفعه إلى إشعال الحروب.

هكذا تتقاطع البراغماتية الترامبية مع الأزمة "الإسرائيلية" الداخلية: فترامب يرى أن تحصين نتنياهو قانونيًا هو الطريق إلى ضبطه سياسيًا، تمامًا كما يرى أن نزع سلاحه من "حق الحرب" هو الطريق إلى تهدئة "الشرق الأوسط".

واشنطن تعيد تعريف التحالف

لكن خلف هذه الديناميكية الشخصية بين ترامب ونتنياهو، تكمن إعادة تعريف أوسع للعلاقة الأميركية-"الإسرائيلية". فإدارة ترامب لا تتصرف من منطلق الحب أو الكراهية، بل من منطق السيطرة. فـ"الشرق الأوسط"، في رؤيتها الجديدة، لم يعد بحاجة إلى "إسرائيل" المقاتلة، بل إلى "إسرائيل" المنضبطة التي تخدم الاستقرار الأميركي لا اضطرابه.

في هذا الإطار، يتحوّل "الجيش الإسرائيلي" إلى ذراع تنفيذية ضمن إستراتيجية أميركية أشمل، بينما يتحوّل القرار الأمني إلى أداة بيد واشنطن لتوزيع الردع أو ضبطه حسب مصالحها. إن ما كان يُسمّى "التحالف التاريخي" بين الطرفين، تعاد صياغته الآن كعلاقة وصاية سياسية - أمنية، تُبقي "لإسرائيل" القوّة، ولكن تسلب منها الإرادة.

الهيمنة بوجهها الصريح

ما فعله ترامب ليس مجرد تدخل في شأن حليف، بل إعلان صريح عن نهاية مرحلة كانت فيها "إسرائيل" تُستخدم كوكيل أميركي في المنطقة. فاليوم، لم تعد واشنطن بحاجة إلى الوكيل، بل قررت أن تتولى بنفسها الإشراف المباشر على مسرح العمليات. ومن هنا تأتي رمزية إنشاء المركز الإداري الأميركي في القدس: ليس مجرد غرفة تنسيق، بل مقر سلطة جديدة، تُذكّرنا بإدارات الانتداب القديمة، حين كانت القوى الكبرى تدير المستعمرات عبر "مفوضين سامين".

هذا التحوّل لا يعبّر عن "نضوج أميركي" أو "تصحيح أخلاقي"، بل عن نزعة استعمارية محدثة، ترى في السيطرة المباشرة ضمانًا لدوام الهيمنة. فواشنطن، التي تدّعي الدفاع عن الديمقراطية "الإسرائيلية"، إنما تعيد هندسة تلك الديمقراطية لتخدم بنيتها الإمبراطورية، لا العكس.

"إسرائيل" بعد فقدان حق الحرب

في العمق، ما يجري ليس مجرد خلاف بين ترامب ونتنياهو، بل انقلاب في طبيعة الكيان "الإسرائيلي" نفسه. فالكيان الذي طالما قدّم نفسه كـ"حصن متقدم" للغرب في الشرق، يجد نفسه اليوم تحت رقابة سيده الغربي ذاته. لم تعد واشنطن تكتفي بتمويل الحروب، بل باتت تُقرر متى تبدأ ومتى تنتهي.

إنّ فقدان "إسرائيل" لحق الحرب هو بداية فقدانها لحق القرار. إنها المرة الأولى التي تتحول فيها من دولة فاعلة إلى "كيان مُدار". ومع أن نتنياهو يرفض الاعتراف بذلك، إلا أن الحقائق على الأرض تقول إن القرار الأمني "الإسرائيلي"، بكلّ ما فيه من رمزية واستقلال، أصبح بيد البيت الأبيض لا في "تل أبيب".

الكلمات المفتاحية
مشاركة