تحقيقات ومقابلات
في الجنوب، حيث لا تنام الأرض على جرح ولا تفرّط بذرّة من كرامة، خرج الشهيد جواد الصبوري ابن مدينة النبطية من بين تلال الخيام متصدّيًا لإجرام العدو "الإسرائيلي" في معركة "أولي البأس".. معركة اختلط فيها صوت القذائف بنداء التكليف؛ هناك حيث كتب جواد سطره الأخير على صفحات الجنوب.
رحل كما أراد، وفي المكان الذي أحبّ، تاركًا سيرة تُروى كفصلٍ من تاريخ أولئك الذين اختاروا أن يقفوا على خط النار ليبقى وطننا لبنان على قيد الحياة.
ملامح البداية
تروي والدة الشهيد لموقع "العهد" الإخباري أنّ بداية جواد كانت مختلفة؛ تتحدث عنه بعينٍ دامعة، لكن بصلابة من تعرف أنّ ابنها قد اختار طريقه عن وعي وإرادة. تقول: "كان مدلّل العائلة والجيران، محبوبًا أينما ذهب، طيّب النفس، حساس القلب، يتّكل على نفسه منذ صغره، لا يعرف الكذب ولا يقبله من أحد، كريمًا، خدومًا، محبًا للخير..".
تضيف: "كان جواد بريء الروح، يهتم بدراسته، ويتعامل مع الحياة كأنها رسالة يجب أن تُؤدّى بصدق.. الأمانة كانت بالنسبة إليه مبدأ لا يساوم عليه".
تتذكره حين كان يقف عند رأسها في المرض، يقرأ الأدعية بصوتٍ خافت؛ قبل أن يعرف معنى التكليف، كان يصوم ويصلّي حبًا لا خوفًا. المسجد كان بيته، يدخل إليه كمن يدخل إلى قلب الله بابتسامة الواثق ووقار المخلص".
حين وصلها نبأ استشهاده، كان وقعه كبيرًا، لكنّها واجهت بثبات قائلة: "رأينا في وجهه دائمًا نور الشهادة. الموت حق، لكن الفراق صعب. غير أنّ الله صبّرنا، وصبرنا من صبر الأمهات اللواتي يعرفن أن أبناءهنّ رحلوا في أشرف معركة".
وصية الدم
كانت وصيته واضحة: "احفظوا المقاومة". يروي شقيقه الأكبر عباس الصبوري أنّ تلك كانت كلماته الأخيرة. ويضيف:
"دماء الشهداء ليست نهاية، بل وصية معلّقة في عنق الأمة. واجبنا، نحن عوائل الشهداء، أن نصبر ونحفظ المقاومة؛ لأننا نؤمن أن هذه الدماء هي طريق الكرامة".
الأخ الذي صار قدوة
يستعيد عباس تفاصيل العلاقة التي جمعته بأخيه الصغير؛ فيقول: "كان بمثابة ابني، يصغرني بثلاث عشرة سنة. منذ وعيه كان يستشيرني في كلّ شيء، حتّى صار أكثر نضجًا مني في بعض المواقف. كنت أفتخر به أمام الناس، وكذلك كان مصدر فخرٍ للعائلة. في العمل الكشفي والعسكري كان أنموذجًا للانضباط والالتزام، وداخل البيت كان نبع حنان لا ينضب".
يتابع شقيق الشهيد: "أحبّ أخته كثيرًا، وكان يناديها بالغالية، ويعامل أولادها كأبنائه. الدنيا لم تكن تعني له شيئًا، مع أنه بدأ بتجهيز منزله ليبدأ حياته الزوجية، لكنّ المقاومة كانت عنده أولوية مطلقة. كان ضحوكًا، خلوقًا، والحديث معه راحة للنفس. وكنا نشعر أنّ النظر إليه عبادة؛ فوجهه كان كالبدر في ليلة تمامه".
يضيف عباس: "جواد في حياته كان قدوة، وبعد استشهاده صار روحًا تحيط بنا. وجوده بيننا لا يُرى، لكنّه يُحسّ.. فالشهداء لا يغيبون، إنهم فقط يبدّلون مكانهم".
المجاهد والعالم
إلى جانب العمل الجهادي، كان جواد شابًا مجتهدًا في العلم. أكمل دراسته في المعلوماتية الإدارية، وتخصّص في الصيانة والكمبيوتر. عمل في شركةٍ احتضنته كأحد أبنائها، وكان محبوبًا من زملائه وزبائنه، دقيقًا ومنضبطًا ومتفوّقًا في تجويد القرآن والدورات الثقافية.
في المجال الكشفي، برز قائدًا حقيقيًا. يقول أحد رفاقه القادة: "كان يؤمن أن الكشفيين هم جيل المستقبل، وأن دورهم هو مواصلة نهج الشهيد الأقدس الأمين العام لحزب الله سماحة السيد حسن نصر الله. لذلك كان يغرس فيهم الثقافة والوعي قبل المهارة".
في الميدان
عند الحديث عن الجبهة، تتوحّد الشهادات. يقول أحد رفاقه في الجهاد: "كان وجهه ملائكيًا، لكن قلبه قلب أسد. مقدام لا يعرف الخوف، يصوم في الحر، ويصلّي وسط المعركة. منضبط في كلّ شيء، لا يناقش التكليف؛ بل يسابق إليه.. وهو كتومٌ إلى حدّ الغموض، لا يتحدث عن عمله، ولا يُعرف ما أنجزه إلا بعد رحيله".
يتابع رفيقه قائلًا: "في معركة أولي البأس، كان على تماس مباشر مع العدو. ومع ذلك؛ كان أكثرنا هدوءًا وثقة بالنصر. كنا نظنه في مكانٍ آمن من شدة طمأنينته، لكنّه كان في الخط الأول. لم يعرف الراحة، ولم يتوقف عن العمل إلا حين أغمض عينيه للمرة الأخيرة".
سيرة لا تنتهي
حين يُسدل الستار على قصّة كهذه، يُدرك القارئ أنّ الحديث لا ينتهي.. فالشهداء، كما يقول شقيقه عباس: "يتركون أثرًا لا يُمحى. بعد استشهاده، قصدنا كثيرون ليعرفوا أكثر عن جواد، كأنهم يبحثون عن سرٍّ في تلك الروح التي جمعت بين التواضع والعظمة".
وجواد، في نهاية الأمر، هو أنموذجٌ لجيلٍ آمن أن الدفاع عن الأرض هو أسمى أشكال الحياة، وأن الموت في سبيلها بداية لا نهاية.
لقد رحل ملاك الخيام، لكنّ صدى خطواته ما يزال يُسمع في دروبها، وصورته ما تزال تضيء جدران الجنوب الذي يعرف أبناءه واحدًا واحدًا.. لأنهم جميعًا وجوهٌ من نورٍ تنتمي إلى ذاكرةٍ لا تشيخ.