اهلا وسهلا...
موقع العهد الاخباري

كانت البداية في 18 حزيران/ يونيو 1984 في جريدة اسبوعية باسم العهد، ومن ثم في 5 تشرين الثاني/ نوفمبر 1999 أطلقت النسخة الاولى من جريدة العهد على الانترنت إلى ان أصبحت اليوم موقعاً إخبارياً يومياً سياسياً شاملاً

للتواصل: [email protected]
00961555712

المقال التالي تمنين التحتا تحيي يوم الشهيد في روضة شهداء  البلدة

مقالات

نحن أمة الشهادة
مقالات

نحن أمة الشهادة

156

هل تذكرون اللقطات التي نشرها العدو "الإسرائيلي" خلال معارك أولي البأس، تلك التي تظهر الشهيد إبراهيم حيدر مشتبكًا مع العدو، يحمل قاذف B7، وفي مرمى رصاص العدو يقف بلا ارتجاف، وبثقة يتحرك راميًا باتجاه مصدر النيران، ثم يستعيض عن القاذف بسلاحه ويتابع، مقبلًا لا يعرف الإدبار، وعندما لا يتمكن مقاتلو العدو منه، كانت المسيرة التي تسجل صلابته، ترمي البيت الذي يتحصن فيه؟ هكذا واجهت "إسرائيل" رجالَنا، بالمسيّرات والروبوتات.

 على مدار ستة وستين يومًا من الاستبسال الذي لم تعرفه حتى الأساطير، ظلّت بلدات الحافة الأمامية عصية على العدو أن يثبت له فيها موطئ قدم. نحو سبعين ألف مقاتل للجيش "الإسرائيلي"، احتشدت معهم التكنولوجيا وأحدث ما توصل إليه العالم من أسلحة، هزمهم اللحم الحي للعامليين ومن أنجبته بطون عائلاتهم، الممتدة من الجنوب إلى البقاع فالشمال، بلحم ذاب على تراب جبل عامل، ودمٍ سقّاء عز وبطولة، حرّم المقاومون على "إسرائيل" أن تسجل انتصارًا ميدانيًا في مواجهتهم. هذا والمقاومة هذه هي التي لم تكد تستوعب جريمة "البيجر" التي هزتها، حتى كانت تباغتها الضربات التي تستهدف قادة صفّها الأول، وزلزال اغتيال شهيدها الأقدس السيد حسن نصر الله وخليفته السيد هاشم صفي الدين. وسط هذه الظروف وأكثر، دارت المواجهات.

ومشاهد اشتباك الشهيد إبراهيم حيدر لم تكن الوحيدة، فبعد انتهاء العدوان، نشر العدو لقطات تظهر ملاحقة مسيّراته المقاومين فردًا فردًا في ميادين المواجهة. تحميهم أشجار جبال عامل، وتذود عنهم صخورها وكل ما شُيِّد عليها، فتنسفهم طائرات العدو الموجهة جميعًا. ولأول مرة كُتب لنا أن نعاين كيف أن أبناء التراب يمنحونه الحياة بدورهم، بلحمهم ودمهم ما يهِبُه المعنى والبسالة، وعزًا لا يضاهى، وقيمة لا تقدر بثمن. وقد تعمد العدو توثيق جرائمه ونشرها، ولعله أراد ذلك ليظهر تفوقه تكنولوجيًا فيَدبَّ في النفوس الذعر للتراجع، أو ربما أرادها متشفيًا بأن نعاين عجزنا وهو يحصد الأرواح أينما لجأت، ولكنه -ومن حيث لا يعلم- كان يبثّ ما يلهب فينا الروح، لنعاين بالصورة سيرتنا التي حُذف ذكرها من كتب التاريخ الرسمية: الشعب الباسل الذي شكلته الحروب الطاحنة التي توالت عليه، "وقد خلق هذا الإرهاق الشديد منه شعبًا حربيًا باسلًا يهزأ بالمنايا". وزعماؤه مع أبنائه شهداء في معاركهم، ليقفوا في كل مرة "وقفة المستميت دفاعًا عن أوطانهم، وحفظًا لكيانهم"، كما ينقل محمد جابر آل صفا في كتابه "تاريخ جبل عامل". 

والاستبسال عاينّاه هذه المرة بمشهدية جديدة، بعيون دامعة، غير أن الألم فينا وعيٌ يتجذر أن وجودنا بكُله ممتن للأبطال أبناء البطولات، وأن النصر معقود على جباههم لأنهم على مدى التاريخ امتلكوا أسبابه، وأن حاضرهم مرآة تاريخهم الذي شهد له الدبلوماسي الفرنسي "باراديس" بقوله: شاهدناهم يقاتلون بترتيب ونظام، مما جعلهم ينتصرون على أعدائهم الذين يفوقونهم عددًا"( كتاب تاريخ الشيعة والطوائف في لبنان، كاظم ياسين).


في ٢٧ كانون الثاني/ يناير ٢٠٢٥ كان أهالي قرى الحافة الأمامية يعودون إلى أرضهم، يتقدمهم ذوو الشهداء، آباء وأمهات وأخوة أو أبناء، بحثًا عما تبقى من أثر.

- من النبي عثمان في بعلبك إلى بليدا الجنوبية، كانت تحضر أم لشهيد، تنبش التراب بكلتا يداها وتناديه… بعدها تُلتقط لها صورة، لتستقر في ذاكرة التاريخ: مفترشةً الأرض، وفي قلبها تحتضن جمجمة ابن روحها، وفي حجرها تضع عموده الفقري (والدة الشهيد مصطفى وهبي).

* عند مدخل يارون، يخرج الشقيق مُحملًا بجسد ملفوف، يحتضنه بجوارحه، التي تنطق في عينيه وتعابيره. ثم يخاطب المصوّر: "دخلنا لنأتي بعريسنا. آثار دمه كانت في المكان، كان قد اشتبك معهم حتى الشهادة. الحمد لله".  (شقيق الشهيد محمد علي الأطرش)

* ومن الطيبة ثلاثة صبية، كبيرهم لا يتجاوز السابعة عشرة - ربما - كانوا أول الواصلين، على أكتافهم يخرجون من البلدة حاملين ما تبقى من جثمان والدهم على الأكتاف، وتعابير وجوههم كانت تدخر الكثير لتقوله لاحقًا.  (أبناء الشهيد محمد محمود أرسلان)

* في عيتا الشعب، صورة لأب يحمل جمجمة. وشريط ذكريات يمر أمام عينيه سريعًا: "هذا الذي كنت أحمله بعمر العامين وأناغيه. هذا رأسه الذي كنت أمسح عليه، بين يدي، ولكن بلا شعر وبلا عينين… هيدا ابني". (والد الشهيد هادي طحيني).

* وفي عديسة أم حضرت من النبي شيت بقاعًا، تجوب طرقاتها بحثًا عن أثر لزهرة روحها، وأخرى في الخيام، ومثيلاتها في عيترون، وغيرها..

تستعيد الذاكرة الأحداث، ومعها صور الشهداء وذويهم ومجتمع كامل ينتمي إليهم… ومعهم 

 صوت شهيد، بل استشهادي آخر هو الحاج محمد عفيف، يُسمع مرة أخرى وهو يقول: "على كل حبة تراب رح تمرقوا عليها هلأ في نقطة دم شهيد، خففوا دعسات إجريكم على التراب، لأن تحت التراب في دماء وأجساد شهداء".

قبل عام، كان جبل عامل يحتضن هؤلاء الاستشهاديين، وقد كانوا فعلًا استشهاديين، بالنظر إلى ظروف المعركة، وما توفر لهم من إمكانيات، ونسبةً إلى حجم الحرب ومستوى الضربات القاصمة التي تعرضت لها المقاومة. هذا ولم تضعف لهم عزيمة، وثباتهم لم يعرف الوهن، وكل واحد منهم بجيش عرمرم. واشتباكاتهم من مسافة صفرية كانت تهزأ بالاحتلال، وتعيد مرة أخرى، تثبيت "أن "إسرائيل" هذه أوهن من بيت العنكبوت"… وملاحم الخيام، وشمع وعيترون، ومواجهات عديسة وعيتا الشعب تشهد، وصواريخ المقاومة تطال غرفة نوم نتنياهو وتلحق الدمار بأبنية في "تل أبيب" تؤكد.

لقد سطرت مواجهات الحافة الأمامية وحدها بطولات قلّ نظيرها لاستشهاديين، لا يزال رجع صدى تكبيراتهم يُسمع من تحت الركام… واليوم، عام يكاد يمر على اعلان وقف إطلاق نار لم يتحقق من جانب العدو، والاستشهاديون فينا بذلٌ يومي، بحر لا ينضب من رجالات ونسوة، ومجتمع بأسره، في مواجهة الحضورُ فيها موقف وثبات وصلابة. وها نحن مجتمعًا كاملًا امتداد للحظة الاستشهادي الأول أحمد قصير يحيل سفاح صبرا وشاتيلا، أرييل شارون، ذليلًا ومحبطًا. وعلى شاكلة سلفه يخرج اليوم مجرم الإبادة بنيامين نتنياهو، محبطًا ليبدد ثباتنا أحلامه ومزاعمه بالقضاء علينا وجودًا مقاومًا. وها نحن كما كنا لا نزال، أمة الشهادة التي تُعجِز ولا تَعجَز.

الكلمات المفتاحية
مشاركة