نقاط على الحروف
تحت شعارات السيادة والوطنية والعقل الحرّ والانتماء، والتي شاءت المصادفات أن يكون حاملوها أنموذجًا حيًّا عن نقيضها، تواصل القوى المسمّاة بــ"السيادية" حصد الألقاب والمراتب المتقدّمة في لعبة أن تكون متصهينًا أكثر من الصهاينة، ومتأمركًا أكثر من الأميركي نفسه.. ولعل جولة الوشاية ليست سوى مرحلة من هذه اللعبة الشيطانية.. وللشهادة، يجتهد الوشاة السياديون في التنافس على المرتبة الأولى فيها، فتراهم يعبرون البحار والمحيطات لاستحقاقها عن جدارة. وما همّهم أن يكون اللقب المشين، بخاخ السمّ مثلًا، بحدّ ذاته وصمة، فتاريخ هؤلاء حافل بالوصمات من مختلف الألوان والرتب.
يظلّ السؤال مطروحًا عمّ إذا ما كان ثمّة لغط لديهم بين مفهوم الوصمة ومفهوم الوسام؟
ذلك؛ لأن لا شيء سوى لغط كهذا يفسّر تباهيهم بالوصمات، حتى تلك التي إذا في العادة اقتربت من دائرة أي عاقل، لهاجر إلى حيث لم يسمع به أحد، ولتخفّى خجلًا وخزية عن أي عين قد تلمحه، فتعرفه.
في يومياتنا وفي كل جمع بشريّ، ثمّة شخصية يمقتها الجميع: في الصفوف المدرسية تُسمّى "الفسّيد" وفي الحياة العملية تُدعى "المخبر" الذي ينقل "خبريّات" لجهة ما لقاء مقابل مادي أو معنوي. وممّا تتسّم به هذه الشخصية عدم مراعاة المصداقية في "الخبرية" التي تقوم ببخّها؛ فالمعيار الوحيد هو الثمن الذي تبتغي تحصيله مقابل نقلها، والذي غالبًا ما يكون رخيصًا قياسًا بحجم "الخيانة" الذي تمثّله الوشاية، وهي آفةٍ بحدّ ذاتها.. ولأن الشيء بالشيء يُذكّر، تجدر الإشارة إلى أنّ آخر ما حصده بعض أفراد الفريق السياديّ في لبنان هو مرتبة "بخّ السّمّ"، وهي مرتبة تتطلّب بالإضافة إلى صفّة الواشي وسماته، "الفسّيد" بالعامية، مقدرة عالية على استنفاذ كلّ الجهد الممكن في سبيل تحقيق المصلحة الخاصة والمتمثّلة بوهم أن يصبح لبنان "إسرائيليًا" وأن يصبح جيشه "شرطة عسكرية" تأتمر بأوامر جيش العدو.. هذا فضلاً عن وهم عتيق يعشعش في عقل أحدهم، وهو سكن قصر بعبدا، رئيسًا للجمهورية؛ ولأنه يمكن للإنسان في مرحلة متقدمة من انعدام السّواء الأخلاقي والإنساني أن يصبح أسير طموحاته المرتكزة على الوهم، فيرتكب المزيد من الأفعال الشائنة عبر محاولات يائسة لتحويل الوهم إلى حق
انتشرت روايات "بخّ السمّ" في واشنطن؛ وفُضحت فيها أسماء شخصيّات تقاسمت دور البطولة في فيلم المتأمرك الرديء. استهداف رئاسة الجمهورية وقيادة الجيش بالسمّ هذا ليس غريبًا على الذين اعتادوا استهداف معارضيهم، وحتى حلفائهم بالذخيرة الحيَة، غدرًا.. تناقلت مؤسّسات الإعلام المحلية والعربية والدولية العديد من الأسماء "السيادية" التي شدّت رحالها إلى واشنطن، في الآونة الأخيرة، وعمدت إلى عقد لقاءات مع الأميركيين تخلّلها تحريض واضح ونقل فاضح لما يجري في اجتماعات مجلس الوزراء. كما تضمّنت تأفّفًا ملحوظًا من أداء العهد ورئاسته.. هذه الإرتكابات المخزية جاءت بالضبط على "طبطاب" الإدارة الأميركية، ببساطة، ما جرى تسريبه من فحوى بعض هذه اللقاءات بتفاصيلها كلها لا يحمل التحريض على البلد وسيادته وأهله وأرضه فحسب، أيضًا على "العهد" الذي من المفترض أنّه يمثّلهم، وفي أقل الأحوال لا خصومة بينهم وبينه..
إذًا، لعب السياديون دور البطولة في سيناريو التحريض على البلد وأهله منذ سنين، من على مختلف المنابر وفي كلّ المحطات والمفترقات.. والمفارقة أنّ "بخّ السمّ" السياديّ هذا لا يكتفي باستهداف الخصوم والأعداء، فالسياديون يكتنزون خلاصة سمّهم لبخّها ضد حتى الذين يتقاطعون معهم حدّ التجانس أحيانًا... وإن كان بخّ السمّ، في الولايات المتحدة الأميركية، ضد رئيس الجمهورية قد نُقل بالصوت والصورة، فبخّ السمّ الذي سبق هذه الجولة بسنين، وتحديدًا عند السعوديين ضد سعد الدين الحريري، الرئيس الأسبق للحكومة اللبنانية حينها، خلال اختطافه في الرياض وإجباره على الاستقالة. وأكثر من ذلك، يبدع السياديون، في الشهور الأخيرة، بالمجاهرة بالتحريض ضدَ المقاومة في لبنان وكلّ ما يرتبط بها، وباستجداء "الإسرائيلي" ليوسّع ضرباته ويجعلها أكثر همجية وعدوانية!
بالعودة إلى واشنطن، وما بُخّ فيها، كانت قناة الجديد قد أوردت عن مصادرها في عين التينة أنّ عضو الهيئة التنفيذية في حزب القوات اللبنانية جوزيف جبيلي، هو بخّاخ السمّ. وهذا ما أكّدته صحيفة "الجمهورية"؛ بالإضافة إلى كشف مجموعة قواتيين كُلّفت منذ مدة بتنفيذ مهمة تحريض عند الأميركيين بهدف الضغط لفرض عقوبات على الرئيس نبيه برّي. في السياق ذاته، أفادت مصادر صحيفة "الأخبار" بأنّ القوى الأساسية الناشطة في واشنطن، اليوم، هي مجموعات تتبع للقوات اللبنانية مشيرةً إلى أنّ جوزيف الجبيلي يؤدي دورًا محوريًا في هذه التحركات.
يبقى السؤال: هل فضيحة بخّ السمّ تنفي حقيقة أنّ من يُسمّون بالسياديين ليسوا سوى أدوات لا تملك إلا تنفيذ الأوامر واتّباع التعليمات، وتضعهم في مرتبة المحرّض عند الأميركي وليس المستخدَم؟
بالطبع لا، فالأميركي يعرف ما يريد في لبنان والمنطقة، ولا يحتاج إلى التحريض لفعله، إلّا أنّ الدور "السياديّ" ككومبارس "محلّي" يطالبه بالتدخّل واستباحة البلد لضرورة من أجل "الصورة العالمية" من جهة، ومن جهة أخرى، يعجز هؤلاء اليوم عن اللعب بذكاء وحنكة، إذ يغلبهم الاستعجال والمساعي لاقتناص اللحظة التي يظنون فيها أنّ الزمان صار زمانهم..!
لذلك؛ فاتهم أن عليهم التصرّف بحكمة وحنكة، ما قد يتيح لهم التصرف بشكل منطقيّ يرعى أبسط قواعد السيادة والأخلاق الوطنية. بكلام آخر، يبذل "أهل السيادة المنتهكة"، اليوم، كلّ جهد ممكن، مهما بدا خسيسًا، للإفادة من اللحظة التاريخية التي ظنّوا فيها أنّ المقاومة انتهت، أو حتى قابلة للزوال.. فسارعوا إلى محاولة الاستثمار في وهمهم هذا.. لعلّها تصيب هذه المرّة، ويعودون ولو لمرّة واحدة، غير خائبين!