مقالات
بعد صمود إعجازي مستمر، رغم مرارة التضحيات وتبدل المعادلات، أرسى الاجتماع اللبناني المقاوم في عامي 2024 و2025 دعائم تيئيس الغرب من تحقيق مبتغاه، مع تبديد عنجهيّة الولايات المتحدة الأميركيّة وتقييد إملاءاتها ومع تفريغ أهداف الكيان الصهيونيّ اللقيط.
ومع الحديث عن جولة جديدة من هبوب الرياح العدوانية المتوقّعة على لبنان، فإن التأمل في الصمود الإعجازي، يشير إلى أن أحد أبرز أسرار هذه القدرة الناشطة تيئيسًا في العدوّ وبنيانًا مؤثّرًا في الاجتماع اللبناني المقاوم هو تشكيل "التعبئة".
فماذا عن التعبئة والتعبويين؟ وما صلة التعبئة بالمجتمع وآفاقهما؟
مفهوم التعبئة ومزايا التعبويّين
يقدّم الإمام الخامنئي تعريفًا مكثّفًا ودقيقًا للتعبئة بوصفه لها "جيش الله المخلص"، وهو ما يؤشّر إلى دلالات "الجيش" في التنظيم والانضباط والدقة والبنيان المرصوص، لكن على أرضية معنوية متينة، مفعمة بالتقوى والإخلاص، وكذلك اليقظة الدائمة والملائمة مقابل العدوّ والشيطان.
يقف التعبويّون كالبنيان المرصوص والموج الهادر الذي لا يعرف التوقّف، في النقطة المقابلة تمامًا للتائهين والغافلين والمنشغلين بالاحتياجات الوضيعة والضيّقة والفردانيّة، أو الرازحين تحت ذل الاستسلام ووهم الخيار التسووي مع سفّاح الإبادة.
يستشعر التعبويّون المسؤوليّة المجتمعيّة وهموم واهتمامات الأمة والإنسان مع غضّ النظر عن الدعة أو الحدود الجغرافيّة المصطنعة بموجب الهيمنة والاستكبار، مع تشخيص الحاجة والاستعداد والجهوزيّة والحضور الدائم في الميادين.
يدأب التعبويون على طيّ طريق شاق دون السؤال عن أي أجر، وعبر التحفّز الدائم لامتلاك القدرة، يبادرون إلى توفير مقدّمات الوجوب تمهيدًا لقيامهم بالواجب، دون أن يتذرّعوا بالعوائق الخارجيّة والمخاطر المحدقة أو التسليم لسطوة الهيمنة واحتشادها وتفوّقها المادي والتكنولوجي.
يتسلّح التعبويّون بالوعي والإرادة والإيمان، ويسلكون بحكمة وشجاعة صراط التصدّي العميق والصائب والمنطقي في الزمان والمكان المناسبين مع الملاءمة المتناسبة لمواجهة كلّ مخطّطات وشائعات وحملات العدوّ بعيدًا عن التعامل بسطحيّة، ودون السماح لتسلّل السكون والركود على حركتهم أو تغلغل الأشخاص المتقاعسين أو المثبّطين في صفوفهم، أو الإصغاء للائمين وأهل الحياد عن الحق والحقيقة والمظلوميّة والعدالة.
التعبئة والمجتمع
تسري التعبئة في شريان "المجتمع" سريانًا ناعمًا، بوصفها مبثوثة في كلّ شرائح وفئات وقطاعات المجتمع، رجالًا ونساءً، شبابًا وكبارًا، وفي مختلف الاهتمامات والاختصاصات الحياتيّة.
وفي التطبيق على الحالة اللبنانيّة، يكاد لا تخلو عائلة ممتدة في الاجتماع الحاضن للمقاومة من منتسب للتعبئة، وهذا من شأنه أن يتلاقى ويتكامل وطنيًّا وقوميًّا مع كلّ فرد من أفراد سائر المكوّنات، يتمسّك بتاريخه أو ثباته على "عقيدة المقاومة" للهيمنة والاحتلال.
إن التعبئة ليست جهازًا من أجهزة المقاومة، إنما هي قاعدة وأصل للمقاومة في مختلف جبهاتها العسكريّة والأمنيّة والثقافيّة والسياسيّة والاجتماعيّة والإعلاميّة والعلميّة والاقتصاديّة.
لذلك إن قوة المجتمع من قوة التعبئة، ومناعة المجتمع من مناعة التعبئة، وتكامل المجتمع من تكامل التعبئة، إلى الدرجة التي تنبثق في المجتمع روح تعبويّة، فتصبح الجدليّة تكامليّة بين التعبئة والمجتمع كثقافة تزدهر وتتفاعل.
الإنجازات والتحدّيات
تشكّل التعبئة رافدًا إستراتيجيًّا للمقاومة، ليس بالأعداد والانتشار فحسب، بل في إفشال مخطّطات العدو، وفي التربية على المقاومة بأبعادها، وفي نشر القيم والتحصين الأخلاقي وإرساء الحياة الطيّبة والعادلة، والآمنة من الفساد والفاسدين ما أمكن، وفي التبيين السياسي، وفي تنمية الإنتاج العلمي ومكافحة التخلّف عن ركب المعرفة، وفي التدفّق الذهني الإبداعي، وفي التصدّي لكافة عمليات الإهانة للثقافة الأصيلة وعقائدها...
استطاع هذا التشكيل أن يساهم في صون الهويّة وفي الدفاع عن الوطن والعقيدة وفي ممارسة أدوار التكافل الاجتماعيّ وإجهاض الحصار والحرب الاقتصاديّة والنفسيّة وتقديم رائعة الصمود في حرب تموز 2006 وفي معركة أولي البأس 2024 وما بعدها.
وفي هذا السياق، إذا كانت واحدة من إستراتيجيّات العدوّ تعمد إلى إضعاف العلاقة بين المقاومة وبين الاجتماع الحاضن للمقاومة، فإن التعبئة تشكّل عنصرًا مركزيًّا وعصبًا رئيسيًّا مانعًا من بلوغ العدوّ هذا المأرب الخبيث.
وإذا كان العدوّ يسعى إلى تعزيز وضع "النظام اللبنانيّ" ضدّ حزب الله عساه يفرض قيودًا تدريجيّة عليه، فإن هذا المد الشعبيّ لحزب الله والمقاومة وبالارتكاز إلى "التعبئة" يشكّل رقمًا صعبًا في أي حركة جماهيريّة شعبيّة أو كتلة ديموغرافية منظّمة، سواء في ثقلها ووزنها الانتخابي أو في تحرّكها الميدانيّ، ومن شأنه تقييد أي اندفاعة تسلّطيّة متهوّرة تستجيب لإملاءات العدوّ وتصب في أهدافه.
وإذا كان العدوّ اليوم، يتوعّد هذا المجتمع بمزيد من الاحتلال والعدوان والحصار، فإن التعبئة هي زيت توقّد هذا المجتمع وإشعاعه بالصبر والبصيرة والمقاومة وهي مرآة عاكسة لروحه وعزمه الراسخ على صيانة المكتسبات التاريخيّة بموجب الفعل المقاوم وآثاره المباركة من الانتصار والوحدة ودرء الفوضى، وعدم التفريط بالتضحيات الكبرى.
يوقن أفراد التعبئة كما المجتمع المقاوم أن الحملة التصعيديّة العدوانية تهدف إلى قتل روح المقاومة بيد العدوّ مباشرةً أو عبر الفتنة، ولا يخفى عليهم بالمقام عينه، أن أطروحة حصريّة السلاح وتسليمه أو تدميره، عنوة أو استسلامًا، ما هي إلا مقدمة ضروريّة للانتحار الجماعي، وبالتالي للنتيجة عينها، فلماذا يستسلمون؟ ولمن يستسلمون؟
وعليه، إن بصيرة التعبئة والتعبويين، تأبى الانتحار، وتمتلك من الرؤى الكافية لإعادة إنتاج واقع المقاومة نفسها على وضعيّات خلّاقة، وعلى أفعال تتجاوز صراع السرديّات إلى حقائق تبعثر أحجار العدوّ وأدواته وبالتالي إستراتيجيّاته وسيناريوهاته، كما تعيد صياغة المعادلات وموازين القوى، بكلّ ما أوتيت من قوة.
سبق أن لعبت التعبئة أدوارًا رياديّة في المجالات الأساسيّة للحياة وفي مواجهة التحدّيات المصيريّة، ويمكنها أن تحدّث تحوّلًا في بنيتها وأدوارها بنحو ثوريّ، بنيويّ ووظيفيّ؛ إذا ما أطلقت طاقاتها واكتملت شروط تفعيل القدرات واحترافيّة التدبير برؤى إبداعيّة استشرافيّة بل تنبؤيّة عكسيّة، حيث تفرض إيقاعها على حياكة المستقبل لا مجرد توقّعه.
إن التعبئة هي رسوخ الأمل في مجتمع يلفظ الخذلان ويتوثّب نحو السمو والرفعة بكرامة وعنفوان، وبالروح الثوريّة يبقى لبنان وإلا داسته سموم الصهيونيّة من مدخل الحياد تارة، ومن وهن التفاوض أخرى، ومن هزالة الدبلوماسيّة أو إرادة السلام مع الجلّاد القاتل الغادر! هيهات، هيهات.