مقالات مختارة
فؤاد بزي - صحيفة الأخبار
فرضت المصارف من دون أيّ مسوّغ قانوني، وبعلم المصرف المركزي ولجنة الرقابة على المصارف، قيودًا على حركة سحوبات رواتب وأجور الموظفين في القطاعين الخاص والعام. ومعها تعطلت قدرة الموظف على الوصول إلى راتبه ساعة يشاء، أو تقاضيه كاملًا، فضلًا عن تحميله ثمن قرارات المصارف بإقفال عدد كبير من فروعها التي انخفضت بنسبة 40.2% من 1058 فرعًا في كانون الأول 2019، إلى 633 فرعًا في حزيران 2025. وهذا ما يحوّل عملية روتينية مثل سحب الراتب إلى "كابوس".
في الأساس، كان الهدف من سياسة تقييد السحوبات المالية من المصارف تقليص تدفق الليرة إلى السوق بذريعة لجم سعر الصرف. لكن هذه السياسة النقدية أصابت الموظفين في رواتبهم المسحوبة عبر الصرافات الآلية الخاصة بالمصارف.
فأصبح الموظف مضطرًا إلى زيارة الصرّاف الآلي مرّات عدّة لتقاضي راتبه. وبعد مرور 6 سنوات على الانهيار النقدي والمصرفي، تواصل المصارف انتهاج السياسة نفسها، أي تقييد السحوبات المالية من دون غطاء قانوني.
ورغم تحوّل الرواتب من الليرة إلى الدولار، ما يعني أنّها لن تفرض على المصرف المركزي والمصارف توسيع عملية ضخّ الليرة إلى السوق، ولن تنعكس سلبًا على الترويج المستمر لـ"الانتعاش الاقتصادي، وعودة الدولار الفريش إلى المصارف"، إلا أن الإجراء في القطاعين العام والخاص في كلّ الأسلاك والمجالات، يصطفون في طوابير طويلة عند مطلع كلّ شهر أمام الصرّافات الآلية ويتكرّر الأمر كلّ بضعة أيام بسبب سقف السحوبات المقيّد أو لنفاد الدولارات من الصرّافات.
حقبة تحوّل عملية سحب الراتب إلى "أرق أو كابوس" بدأت مع إقفال المصارف أبوابها في تشرين الأول 2019، والتي شكّلت قطعًا مع مرحلة العمل المصرفي السابق للانهيار النقدي والمصرفي حين كانت أبواب المصارف مفتوحة أمام العامة. وهذا "الكابوس" لم يصل إلى نهايته بعد، يؤكد الموظفون، بل يستمر في اتّخاذ أشكال جديدة، مثل الانتظار الطويل أمام الصرافات الآلية، أو الاضطرار إلى التنقل بين الصرافات الآلية في المناطق بغية الوصول إلى صرّاف آلي متاح أو يحتوي على الأموال.
بالنسبة إلى الموظفين، في حال صودفت نهاية الشهر مع نهاية الأسبوع، فإن هذا التوقيت يُعدّ الأسوأ، لأنّ "الصرافات الآلية تكون في عطلة أسبوعية، فيؤجل بالتالي صرف الرواتب إلى مطلع الأسبوع المقبل".
أما للتنقل بين الصرافات الآلية في المناطق حكاية أخرى، فالمصارف، ومنذ بداية الأزمة عام 2019 تقفل فروعًا لها بشكل متلاحق وتخفض من أعداد الصرافات الآلية، وهذا ما جعل عددًا من المناطق المترامية الأطراف من دون صراف آلي واحد.
وحتّى الآن لم تعمد المصارف إلى إعادة افتتاح فروع مغلقة، أو إضافة صرّافات آلية. فعلى سبيل المثال، في منطقة الهرمل لا توجد فروع لأيّ مصرف على إثر إقفال فرعي مصرف "اللبناني للتجارة BLC" و"SGBL" بعد الأزمة. وفي منطقة بعلبك لا يوجد فرع لمصرف "الاعتماد اللبناني"، وأقرب فرع لهذه المصارف على المقيمين في بعلبك أو الهرمل هو في منطقة الفرزل، ما يعني أنّ الموظف سيضطر إلى التنقل لمدّة ساعة أو أكثر في السيارة للوصول إلى أقرب صراف آلي، مع عدم وجود ضمانة بالتمكّن من الوصول إلى الراتب، إذ يحتمل أن يكون الصراف فارغًا من الأموال، أو مغلقًا.
لذا يعمد الموظفون إلى إعطاء بطاقاتهم المصرفية لأحد زملائهم، ويقوم هذا الموظف بسحب كلّ الرواتب وتسليمها لاحقًا لأصحابها، في ظاهرة تشبه "معتمد القبض" التي كانت معتمدة قبل توطين الرواتب في المصارف. أما الموظفون الأكثر اعتمادًا على هذه الطريقة لسحب الرواتب، فهم العسكريون. إذ يقوم أفراد القطاع العسكري الذين يخدمون في بيروت ومحيطها تحديدًا بسحب رواتب كلّ زملائهم من مصارف العاصمة، وحملها في نهاية الدوام إلى المحافظات الأبعد.
فعلى سبيل المثال، يحمل الرقيب في الجيش مصطفى 15 بطاقة مصرفية تعود 11 منها إلى زملاء له في الخدمة، و4 لأقارب متقاعدين، يقيمون جميعًا في عكار، حيث الفروع المصرفية الأقرب إليهم هي في طرابلس. والذهاب من عكار إلى طرابلس هي "رحلة غير مضمونة"، يقول مصطفى، ومن غير المعلوم أن يجد الموظف الصراف الآلي في المصرف مفتوحًا أو يحتوي أموالًا. لذا، "يفضل زملائي وأقاربي انتظاري حتّى نهاية الأسبوع للحصول على رواتبهم".
لا تقتصر مشكلة إقفال فروع المصارف على المناطق البعيدة من بيروت. حتّى في الضواحي أقفل عدد من المصارف فروعًا أساسية أثناء الأزمة النقدية والمصرفية، ما ركّز الضغط على فروع دون غيرها. مثلًا، أقفل مصرف "فرنسبك" فرعه في منطقة المريجة في الضاحية الجنوبية، وحوّل كلّ موظفي الضاحية من أصحاب الحسابات عنده إلى فرعه في المشرفية. والأمر ذاته قام به مصرف "الاعتماد اللبناني" الذي أقفل 3 فروع في برج البراجنة والرويس والحدث، وركّز الضغط كلّه على فرع واحد في المشرفية أيضًا.
إلى جانب إقفال فروع المصارف، وما تسببه من أعباء على الموظفين، لا تزال السحوبات محكومة بسقوف يومية وأسبوعية. وإن كان موظفو القطاع العام لا يعانون من هذه المشكلة بسبب انخفاض قيمة رواتبهم، إذ لا تتجاوز سقف 800 دولار في أحسن الأحوال.
العاملون في القطاع الخاص في المقابل الذين قامت شركاتهم بإعادة توطين رواتبهم ابتداءً من مطلع عام 2025، يعانون من مشكلة عدم صرف كامل قيمة الأجر دفعة واحدة. مثلًا، تشير مريم إلى أنّ "مصرف لبنان والمهجر" لا يسمح بسحب أكثر من ألف دولار يوميًا من الصرّاف الآلي، لذا تضطر إلى زيارة فرع المصرف مرتين على الأقل للحصول على أجرها الشهري.
كما تشكّل "الفراطة" مشكلة إضافية للموظفين مع الصرافات الآلية، إذ لا تتوافر بشكل دائم، أو لا تتوافر إلا في فروع محدّدة ما يدفع الموظف إلى سحب راتبه من صرّاف ثمّ التوجّه إلى صراف آخر للحصول على "الفراطة" التي تقل قيمتها عن 100 دولار.