اهلا وسهلا...
موقع العهد الاخباري

كانت البداية في 18 حزيران/ يونيو 1984 في جريدة اسبوعية باسم العهد، ومن ثم في 5 تشرين الثاني/ نوفمبر 1999 أطلقت النسخة الاولى من جريدة العهد على الانترنت إلى ان أصبحت اليوم موقعاً إخبارياً يومياً سياسياً شاملاً

للتواصل: [email protected]
00961555712

المقال التالي فيديو| إيفاءً بالعهد: التفرُّغ المطلق للمشاركة في التجمع الفاطمي

نقاط على الحروف

صناعة الوعي الإدراكي المزيّف
نقاط على الحروف

صناعة الوعي الإدراكي المزيّف

89

أكرم بزي

[الوعي الإدراكي (Cognitive Awareness): هو حالة من الإدراك المباشر للمجال الخارجي (عبر الحواس) والداخلي، ويعتبر أساسًا لفهم وتطوير الذات].

لم تعد بعض القنوات "العربية" بحاجة إلى كثير من الجهد كي تُخفي مواقع تموضعها. فالقنوات المشبوهة باتت اليوم تؤكّد، بالصوت والصورة والخطّ التحريري، التزامها الكامل بالسرديات "الإسرائيلية" المعلّبة. من “قنوات عربية التمويل صهيونية الهوى"، وصولًا إلى بعض المنابر اللبنانية التي تحوّلت إلى غرف صدى لتلك الرواية… يكفي أن تنقل واحدة منها خبرًا أو "تحليلًا" عن المقاومة حتّى تدرك فورًا أنك أمام إعلام متصهين بالمعنى الحرفي، لا بالاتهام المجازي.

هذا النمط لم يعد تفصيلًا. فالإعلام والمنصّات الناطقة بالعربية تحوّلت إلى أدوات وظيفتها الأساسية غسل وتلميع الرواية "الإسرائيلية" قبل ضخّها في السوق الإعلامي تحت عنوان "موضوعية" و"تحليل إستراتيجي". هي منظومة كاملة، متكاملة، تتقن مهمّة تبييض أخبار العدوّ وإعادة تدويرها في قالب يبدو محليًا ومحايدًا، بينما جوهره لا يخرج عن كونه تبنيًا صريحًا لرؤية الاحتلال ومصالحه.

كيف يعمل هذا الإعلام؟

1. غسل الرواية "الإسرائيلية":
يتمّ أخذ خبر صادر عن جيش الاحتلال أو أجهزته الإعلامية، ثمّ يُعاد تدويره داخل استديوهات عربية على أنه "تحليل"، لتتم محاصرته في ذهن المشاهد كحقيقة.

2. تحويل المقاومة إلى مشكلة داخلية:
تُقدَّم المقاومة —سواء في لبنان أو فلسطين أو سورية— كعبء على الدولة بدل كونها ردًّا على الاحتلال.

3. دفن أي سياق تاريخي أو سياسي:
حين تُمحى الخلفيات، يُصبح الاحتلال "طرفًا" والمقاومة "طرفًا آخر".

أمثلة على تأثير هذه السرديات:
لبنان:
 - تقديم المقاومة كسبب للتوتر.
 - تبرئة الاحتلال من الخروقات.
 - زرع الشك والانقسام الداخلي.

فلسطين:
 - إعادة تدوير مصطلحات الاحتلال.
 - تغييب حقيقة الاحتلال.
 - تصوير الفلسطينيين مهدّدين للاستقرار.

سورية:
 - تبني السردية "الإسرائيلية" حول الضربات الجوية.
 - ترويج فكرة عجز الدولة.
 - إعادة صياغة الصراع.

لماذا هذا الإعلام خطر؟
لأنه يهدم الثقة بين الشعوب ومقاومتها، ويشرعن العدوان، ويخلق انقسامات قابلة للاشتعال، ويعيد إنتاج العقل الاستعماري بثوب عربي.

في المحصلة، لسنا أمام مشكلة إعلامية عابرة أو انحياز مهني يمكن عزله بالنقد أو المعالجة. نحن أمام مشروع كامل لإعادة هندسة وعي شعوبٍ بأكملها. فالإعلام الذي يتبنّى السردية "الإسرائيلية" لا يمارس وظيفة النقل ولا التحليل، بل يمارس أخطر ما يمكن أن يُرتكب بحق أمة: سرقة عقلها، وتزوير إحساسها بالخطر، وإعادة تعريف العدوّ والصديق داخل وجدانها.
هذا الإعلام لا يكتفي بتغيير رأي الناس؛ إنه يغيّر أحاسيسهم، ردود فعلهم، بوصلتهم، انتماءاتهم، وحتّى طريقة فهمهم لذواتهم داخل هذا الشرق المضطرب. إنه إعلام يدخل إلى غرف النوم، وإلى الهواتف، وإلى اللحظة اليومية، ليعيد تشكيل الوعي العام بما يخدم رؤية واحدة واضحة: تكريس الاحتلال كقدرٍ جغرافي، وشيطنة المقاومة كمرضٍ اجتماعي.

والأخطر أن هذا الإعلام لا يطلق النار، لكنّه يهيّئ الأرض لمن سيطلقها. لا يشنّ حربًا، لكنّه يبني المزاج الذي يسمح بوقوعها. لا يهدم الدول بيديه، لكنّه يزعزع ثقة الشعوب بنفسها وبموقعها وبحقها في الدفاع والوجود. فحين تُدمَّر القناعة، يصبح تدمير البلد مجرّد تفصيل عسكري.

ما يجري اليوم هو احتلال ناعم، أكثر خطورة من الاحتلال المسلّح، لأنه يصيب القلب قبل أن يصيب الأرض، ويقصف الوعي قبل أن يقصف البيوت. إنه احتلال يطمح إلى جعل العربي يعتذر عن مقاومته، ويخجل من تاريخه، ويخاف من هويته. احتلال يريد للإنسان أن يُشاهد قصف بلده ولا يرتجف، أن يرى طفلًا محاصرًا ولا يغضب، أن يسمع عن عدوان فلا يتذكّر أن له حقًا مسلوبًا.

ولذلك، فإنّ الخطر الحقيقي لا يكمن في هذه القنوات نفسها، بل في الرسالة التي تحملها: الوعي العربي ليس محصّنًا، بل مستهدف. وهذه السرديات ليست مجرد أخبار، بل أدوات صراع، تُستخدم لتهشيم كلّ ما تبقّى من القوّة المعنوية لشعوب استطاعت رغم الحصار والحروب أن تبقى واقفة.

إن معركة اليوم ليست فقط معركة حدود، بل معركة وعي وحدود إدراكية. ومن يخسر وعيه، يخسر كلّ شيء بعدها. فالوطن لا يُهدم عندما تسقط حجارة مبانيه، بل عندما تسقط القناعة بحقّه في الحياة.

لهذا، فإنّ مواجهة الإعلام المتصهين ليست ترفًا سياسيًا، بل ضرورة وجودية، معركة بقاء، لأنّ الحرب التي تُشنّ على أدمغتنا لا تقل خطورة عن تلك التي تُشنّ على أرضنا، وربما أشد.

الكلمات المفتاحية
مشاركة