عين على العدو

كتب الصحافي رون بن يشاي، في صحيفة "يديعوت أحرونوت"، عن عدم قدرة أي مقال تحليلي في توقع ما يصدر عن الرئيس الأميركي دونالد ترامب من تصريحات أو قرارات، منذ وصوله إلى البيت الأبيض؛ ولكنه يستدرك بعد ذلك ليقول: " بعد أكثر من مئة يوم، من ولايته الثانية، أصبح بالإمكان تمييز بعض المبادئ التي تُوجّه سلوكه".
استنادًا إلى هذه المبادئ- يتابع بن يشاي- "يمكن محاولة استشراف ما سيحدث في زيارته المرتقبة إلى الشرق الأوسط، والتي ستبدأ في الأسبوع المقبل، ولن تشمل "إسرائيل"؛ وربما يمكن كذلك فهم مضمون التصريح الذي ينوي ترامب الإدلاء به خلال أقل من 24 ساعة؛ وهو تصريح وصفه بنفسه أنه سيكون نقطة تحوّل في سياسة إدارته في الشرق الأوسط عمومًا، وفي ما يتعلق بغزة على وجه الخصوص".
يستنتج الصحفي أن ترامب والمقرّبين منه يسعون: "في الظروف الحالية، إلى تحقيق إنجازات في مجالي السياسة الخارجية والاقتصاد. هذا السعي لعرض إنجازات أمام الرأي العام الأميركي، ويهدف إلى التغطية على الأضرار الجسيمة التي تسببت بها سياساته الجمركية المتقلبة في التجارة الدولية والاقتصاد الأميركي. المواطن الأميركي بدأ لتوّه يشعر بارتفاع الأسعار وبالضرر الاقتصادي الناتج عن عدم الاستقرار الذي تثيرها خطوات ترامب". ويوضح صاحب المقال أن هذا الوضع يمكن أن يستنقذه إنجاز ترامب في زياراته إلى السعودية وقطر والإمارات، بحال عاد محملاً بعشرات المليارات من الدولارات من صفقات الأسلحة واستثمارات الدول الخليجية "السّنية"- بحسب تعبيره- والثرية بالنفط.
غير أن "الرئيس الأميركي يعلم جيدًا أن السعوديين والقطريين يريدون أكثر بكثير من مجرد أسلحة حديثة"؛ يقول بن يشاي ويؤكد: "حتى لو زودتهم واشنطن بطائرات F-35 وذخائر دقيقة بعيدة المدى، فالسعودية وقطر والإمارات والكويت سيظلون يخشون إيران، أو بالأحرى يخشون احتمال امتلاك إيران لسلاح نووي.. لذلك، من المهم جدًا بالنسبة إلى السعودية أن تزودها الولايات المتحدة بالقدرة على تطوير الطاقة النووية واستخدامها لأغراض مدنية. هذه الدول السّنية، وعلى رأسها السعودية، تدرك أن الولايات المتحدة ستسمح لإيران بالاحتفاظ ببرنامج نووي مدني. وهي، مثل "إسرائيل"، تدرك أن الانتقال من برنامج مدني إلى تطوير سلاح نووي ليس بالأمر المعقد".
يّذكّر الكاتب، في هذا الصدد؛ طلب السعوديون من الإدارات الأميركية السابقة، ومنها إدارة ترامب السابقة، مساعدتهم في إنشاء برنامج نووي مدني مشابه لذلك الذي قد تحصل عليه إيران، إدراكًا منهم أنهم قادرون، بميزانياتهم، على تحويله بسرعة إلى برنامج عسكري. ويقول: "ولهذا السبب بالتحديد، رفضت الولايات المتحدة حتى الآن تزويدهم بهذه القدرات، لكن يبدو، بحسب وكالات الأنباء، أن ترامب يعتزم إعلان تغيير في هذه السياسة ومساعدة السعودية على إنشاء برنامج نووي".
التطبيع الذي لن يحدث
ينتقل الكاتب إلى مسألة التطبيع بين السعودية ودولة الاحتلال؛ فيرى أنه من المرجح أن يتحدث عنها ترامب في تصريحه، ولكنّ السعوديين والقطريين لن يكتفوا بذلك. يعزو الكاتب السبب إلى أن: "دول الخليج السّنية ترى القضية الغزّية قنبلة قابلة للانفجار قد تشعل حربًا إقليمية، وقد تثير غضب شعوبهم ضدهم. إنهم يريدون من ترامب إنهاء الحرب في غزة من أجلهم، أو على الأقل التوصل إلى تهدئة مستقرة وطويلة الأمد.. ويريدون تجديد المساعدات الإنسانية لغزة؛ يريدون وقفًا ثابتًا لإطلاق النار؛ يريدون سلطة فلسطينية تحكم القطاع في "اليوم التالي". وقد صرّحت السعودية صراحة أنها تريد مفاوضات بين "إسرائيل" والفلسطينيين بشأن إقامة دولة فلسطينية – لا اتفاق نهائي، بل بداية مفاوضات عملية- ومصر والأردن يشتركان أيضًا في هذا الطموح".
لكن في المقلب الآخر، يضيف الكاتب أن رئيس حكومة العدو بنيامين نتنياهو يعارض بشدة حكم السلطة الفلسطينية في غزة ومفاوضات تبحث في إقامة دولة فلسطينية، لذلك يستنتج على الفور أن مسألة تطبيع العلاقات بين "إسرائيل" والسعودية لم تعد مطروحة حاليًا. وبرأيه:" في "إسرائيل"، الخشية الكبيرة هي من "الجوائز" التي قد يمنحها ترامب للسعوديين والقطريين والإماراتيين. "إسرائيل" تخشى كثيرًا برنامجًا نوويًا سعوديًا يتضمن قدرة مستقلة في تخصيب اليورانيوم، وتخشى أيضًا احتمال تجاهل ترامب لمصالحها في صفقة المختطفين؛ مقابل وقف إطلاق النار و"اليوم التالي"، والذي قد يعرضه على السعوديين".
يتابع بن يشاي في توضيح تلك الأسباب؛ ويقول :"لهذا السبب، يوجد وزير الشؤون الاستراتيجية رون ديرمر حاليًا في واشنطن، محاولًا تحقيق أمرين: أولًا، ألا يفاجئ ترامب "إسرائيل"؛ وثانيًا، ألا يدفع ترامب ثمن الاستثمارات الخليجية في أميركا من خلال تقديم تنازلات في غزة تسمح لحماس بالبقاء مع سلاحها وقيادتها، من دون ضمان إطلاق سراح جميع المختطفين، أحياءً أو أمواتًا". ويضيف :"عامل آخر يؤثر بشكل كبير في سياسة ترامب هو الصراع الدائر، داخل البيت الأبيض، بين كتلتين قويتين: "الانعزاليون" و"الصقور" (المحافظون الجدد)...الكتلة "الصقورية"، والتي ينتمي إليها مستشار الأمن القومي السابق وولتز وزير الدفاع غاست ووزير الخارجية روبيو تدعو إلى تعزيز مكانة الولايات المتحدة قوةً عالمية أولى بإظهار القوة العسكرية. وشعارهم: "السلام من خلال القوة"، وينتمي إلى هذا المعسكر العديد من الجمهوريين في واشنطن".
أما المدرسة "الانعزالية"- يتابع الكاتب- " ترى أن على أميركا التوقف عن لعب دور الشرطي العالمي الذي يفرض النظام الليبرالي العالمي، والذي نشأ بعد الحرب العالمية الثانية. من وجهة نظرهم، يجب على الولايات المتحدة اتباع سياسة تخدم فقط المصالح القومية الأميركية الضيقة. وشعارهم هو "أميركا أولًا" – أو كما عبّر عنه ترامب بـ MAGA – "اجعل أميركا عظيمة من جديد". هذا الجناح يضم شخصيات نافذة؛ مثل: نائب الرئيس فانس، رئيسة موظفي البيت الأبيض سوزي وايلز، و"صديقنا" ستيف ويتكوف الذي يتمتع بتأثير كبير عند ترامب. ويبدو حاليًا أن هذا الجناح هو الغالب، ولهذا تمكّن ترامب، بتأثير ويتكوف، من إيقاف الهجمات على الحوثيين من دون حتى إبلاغ "إسرائيل"..".
النصر الذي لم يتحقق
هؤلاء الانعزاليون يحذرون ترامب، بخصوص المعركة ضد حركة أنصار الله في اليمن، من الوقوع في المستنقع الذي وقع فيه جورج بوش وباراك أوباما في العراق، أو جو بايدن في أفغانستان. تلك المعركة- مع أنصار الله- كلّفت دافع الضرائب الأميركي مبالغ طائلة؛ لذلك أعلن ترامب – كما يقول صاحب المقال- " "نصرًا"؛ وأنهى العملية التي سميت "Rough Rider". حقيقة؛ أنه عندما بدأت الولايات المتحدة العملية قالت في تصريحها أن هدفها تأمين حرية الملاحة لجميع الدول في مضيق باب المندب والبحر الأحمر، إلا أن الاتفاق مع الحوثيين يتحدث فقط عن حماية السفن الأميركية، لكن ذلك لا يهم ترامب. هو يريد "نصرًا"، فأعلن تحقيقه".
"هذا بالضبط ما يرفع مستوى المخاوف في القدس إلى ذروته"؛ بحسب بن يشاي؛ والذي يكمل: "تتشكل في "إسرائيل" قناعة بأن ترامب، كما تصرف في الملف الحوثي، سيتصرف مع الاتفاق النووي الإيراني. سيعلن بسهولة توصله إلى اتفاق أفضل بكثير من ذلك الذي وقعه أوباما في العام 2015، حتى وإن سمح لإيران بالاستمرار في تخصيب اليورانيوم والبقاء على عتبة السلاح النووي. وفي هذا الوضع، لن تتمكن "إسرائيل" من مهاجمة البرنامج النووي الإيراني وتدميره، حتى لو امتلك الجيش الإسرائيلي القدرة العسكرية للقيام بذلك".
يعود الكاتب ليلفت النظر إلى مسألة مهمة تتعلق بقرارات ترامب غير المتوقعة تلك؛ إذ يقول: "من الخطأ الاعتقاد بأن خطوات ترامب تنبع من خصومة شخصية مع نتنياهو. هو تصرف طبيعي يبدو له منطقيًا وضروريًا في تلك اللحظة، من وجهة نظر أميركية، أو بناءً على نصيحة آخر شخص يحترمه همس في أذنه. هناك كثيرون، في "إسرائيل"، وأنا منهم، بدأوا يفتقدون الرئيس بايدن وإدارته. صحيح؛ أنهم قيّدوا أيدي "إسرائيل" في بداية الحرب وأخروا شحنات الأسلحة، لكن مع إدارة بايدن كنت تعرف تمامًا أين تقف، وما الذي يمكنك فعله وما الذي لا يمكنك فعله. أما مع ترامب، فكل الاحتمالات مفتوحة، بما في ذلك أسوأها".