مقالات

في قمة لا تتسق مع مسماها الذي يقضي بالجمع بين رؤوس الدول وقمم أهرامها لاتخاذ قرارات تاريخية مؤثرة، غابت القرارات وغاب الزعماء بما يشبه إعلانًا رسميًا عن وفاة مظلة جامعة الدول العربية، كمظلة تعاون إستراتيجي وتحالف جيوسياسي لخدمة مصالح الأمة وحقوقها.
وبحضور خمسة زعماء فقط، وغياب من تهافتوا على السلام والانحناء وتقديم فروض الولاء للرئيس الأمريكي قبلها بساعات، وبتزامن عقد القمة مع الإعلان عن خطة "عربات جدعون" الصهيونية لاحتلال غزة، فإننا أمام مشهد كاشف لما وصل إليه النظام العربي الرسمي واقتراب إعلان وفاته رسميًا.
ولو تأملنا الخمسة الحاضرين لوجدنا بينهم رئيسين لسلطات وهمية، مثل الرئيس الفلسطيني الذي يحكم فراغًا منزوع الصلاحيات إلا من التنسيق الأمني مع العدو، ورئيس مجلس رئاسي في اليمن معين سعوديًا لطمس الوجه الحقيقي المقاوم لليمن التي تحارب الكيان وأميركا إسنادًا لغزة.
وبالتالي، نحن إزاء مشهد يعكس تحولًا دراماتيكيًا في انتقال مركز الثقل من مفهوم القومية العربية والدفاع الجماعي العربي إلى مفهوم جيوسياسي جديد يبدو مندفعًا ومتسرعًا للانخراط واتباع نسق وقواعد "الشرق الأوسط الجديد" عبر التطبيع مع الكيان وانتزاع القرار لصالح دول النفط المتعاونة مع أميركا خدمةً لأمن جماعي مختلف ومعادٍ للأمن القومي العربي.
حتى البيانات التي كانت تُسطَّر شكليًا بلغة قوية، وموشاةً ببعض الشعارات الرناتة، ولو كانت خالية من المضمون والمصداقية بسبب افتقاد الشق العملي لها، بدت فاترة هذه المرة، وتحيل مطالبها إلى دول أخرى وإلى مؤتمرات دولية إقرارًا بالعجز عن الفعل العربي الذاتي وعدم امتلاك أي ورقة قوة، وبات تكرار المطالبات والمناشدات رغم تجاهلها إعلانًا صريحًا عن الاستهانة بهذا الجمع وهذه المظلة التي كان اجتماعها في بعض العهود الغابرة يسبب استنفارًا للعدو وترقبًا أمنيًا وعسكريًا وسياسيًا للقرارات.
والبيان الختامي للقمة لا يحمل جديدًا يستدعي التعليق أو التحليل، وقد جاء موافقًا لتوقعات الشعوب لناحية أنه يحمل بنودًا إنشائية خالية من القرارات العملية، وأنه مجرد إبراء للذمم، وكل ما يمكن قوله عنه أنه هزيل ولا يتسق مع خطورة الوضع الراهن من تصفية للقضية المركزية وحصار شامل لمقاومة الأمة، من أجل فرض أمر واقع جديد.
والأهم هنا، هو استعراض بعض الدلالات الكاشفة لهذه القمة شكلًا وموضوعًا، لأن هذه الدلالات تلخص الوضع الراهن وما يحمله من سيناريوهات خطيرة وما يكشفه من عجز وخيانات تاريخية تفوق كثيرًا العجز والخيانات التي واكبت النكبة، وهو ما يمكن استعراضه في ثلاثة عناوين كبيرة تاليًا:
1- الشراكة العربية في دماء الفلسطينيين واللبنانيين.
أكدت القمة عبر مستوى التمثيل الهزيل، بل وانتقاء بعض الوجوه، أنها لا تعير القضية الفلسطينية عمليًا أدنى اهتمام، وذلك لعاملين رئيسيين كاشفين.
الأول، هو غياب أصحاب أوراق الضغط الاقتصادي الذين حضروا بكامل رجالاتهم ومؤسساتهم للاجتماع مع ترامب، ووجهوا أموالهم لخدمة وإثراء الخزينة الأمريكية التي تمول حرب الإبادة، والاتفاق مع أميركا على مشروعات جيو اقتصادية وإستراتيجية تخدم أجندة الصراع الدولي الأمريكي، والتي بموجبها يجري التطبيع وتحويل الكيان الصهيوني إلى مركز لوجستي واقتصادي في المنطقة على أنقاض غزة، وهو ما لم يخفِه ترامب، بينما كان يخطب على منبره في قطر مطالبًا بالاستيلاء على غزة.
والثاني: هو الإصرار على التخلي عن حضور تمثيل المقاومة، ولو حتى حفظًا لماء وجه العرب وإبراء للذمة، بل على العكس، يتم اعتماد تمثيل وجه يمني معادٍ للمقاومة، ووجوه سورية أعلنت استعدادها للتفريط والتطبيع وتقديم أوراق شرعيتها عبر توجيه سلاحها للمقاومة لا للعدو.
وهنا نحن، أمام شراكة حقيقية في دماء أهل غزة والضفة ولبنان واليمن بل وسورية بعد الجرائم المرتكبة ضد الأبرياء.
2- الانفصال الكامل بين الأنظمة والشعوب
مع تجاهل أوراق القوة العسكرية، رغم إنفاق الأنظمة العربية ملايين الدولارات على التسليح، باتت الشعوب تتطلع إلى أقل الإيمان ولو عبر المقاطعة الاقتصادية، لكن أنظمة الخليج فاجأت الأمة بما هو أحقر من التخلي عن المقاطعة، واتبعت مسارًا عكسيًا بتعميق التعاون وخدمة المصالح الأمريكية.
وبات التناقض صارخًا بين حرص قطاعات من الشعوب على مقاطعة الشركات الأمريكية والصهيونية وبضائعها، وبين الأنظمة التي لا تمول فقط الشركات التجارية التي تخصص جزءًا من أرباحها لدعم الكيان، بل تمول شركات السلاح التي تمد العدو بالطائرات والذخائر وأنظمة الذكاء الاصطناعي التي تقتل عشرات الأبرياء بشكل يومي.
3- التعبير عن تحول مركز الثقل والاستسلام إلى الشرق الأوسط الجديد
لا شك أن جولة ترامب الأخيرة وتجاهله للقاء الرئيسين المصري والأردني، ثم غياب قادة الخليج باستثناء قطر، بفعل إدمانها دور الوساطة وحلقة الوصل بين المشروعات المختلفة، وحرص مصر على حضور القمة، يشي بأن مركز الثقل يتحول من مفهوم القومية والدفاع العربي المشترك وفي قلبه وعلى رأسه الدول المركزية التقليدية مثل مصر وسورية والعراق، إلى مفهوم شرق أوسطي على النمط الأمريكي الصهيوني، بنسق دفاع جماعي مغاير وتكامل اقتصادي مختلف عبر ممرات تجارية ومراكز لوجيستية مختلفة، في قلبها دول الخليج والكيان الصهيوني، على أنقاض غزة والنظام العربي التقليدي ودوله المركزية.
وقد بدا من كلمة الرئيس السيسي فطنة مصر لهذا التحول، وعكست بعض العبارات هذا اليقين، مثل الإشارة إلى التطبيع الجماعي دون حل القضية، ويشكل غياب ملك الأردن مراوحة بين المشروعين (التقليدي والجديد).
باختصار شديد، نحن أمام نظام رسمي عربي مهترئ شكلًا ومضمونًا، وأمام تحولات تاريخية كبرى باتت الأدوار فيها تتبدل، ولن يتم الحسم لصالح المشروع الصهيو ـ أمريكي ما دامت المقاومة صامدة، وليس أمام الدول المركزية التي فقدت دورها وهيبتها إلا الالتحام بالمشروع المقاوم، وربما هذه الدول هي التي تحتاج أن تحتمي بالمقاومة، بعد أن كانت المقاومة سابقًا تطلب الاحتماء بالأنظمة وتطلب دعمها.