مقالات

تشتدُّ حربُ الهيمنة الغربية وملحقاتها على الأمة العربيّة والإسلاميّة التي تتراوح بين معلنة وغير معلنة، كاستمرار لحرب مفتوحة على جبهات وميادين، بمستويات وأشكال عدّة مفعّلة منذ تشرين الأوّل 2023م.
بين قاعات المفاوضات المغلقة وجلسات القرار وتدبير الموقف والارتقاء بالمقدرات ومتطلبات الميدان. تخوض إيران معارك مفصليّة متسارعة، تكاد تكون مصيريّة منذ حرب حزيران 2025 التي استمرّت 12 يومًا بوجه العدوان الأميركيّ - "الإسرائيليّ"، وبعض تلك المعارك يحدّد لها استقرارها ومستقبل انفتاحها وموقعها الجيواستراتيجي.
تخطو الجمهوريّة الإسلاميّة الإيرانيّة بين مطرقة القائمة السوداء لمجموعة العمل المالي (FATF) وسندان مشروع "زنغزور" المدعوم غربيًا، والتطورات الأمنيّة والسياسيّة الإقليميّة، وتتحرّك بدبلوماسيّة حكيمة حذرة وعسكريّة يقظة، في اختبار حقيقي لمرونة تقتضيها مواجهة الحصار المكلف والمؤامرات الإقليميّة.
إنها معركة إرادة تُثبت فيها طهران أنها "قلعة السيادة" التي لا تُخرق، تصمد وحلفاؤها في جبهة المقاومة، مدافعة عن سيادتها ومصالحها الإستراتيجيّة بانسجام تكامليّ متمايز وتام مع المصالح الوطنيّة لمكوّنات "جبهة المقاومة" في مواجهة مؤامرات تستهدف تقويض أمن المنطقة.
معركة كسر الحصار الظالم
بعد سنوات عدّة من الظلم الدوليّ، بإدراج إيران على القائمة السوداء لمجموعة العمل الماليFATF، تتحرّك طهران بحكمة لرفع هذا الحصار الجائر، مع تسجيلها إنجازًا تاريخيًّا، عبر تصديق "مجمع تشخيص مصلحة النظام" على اتفاقية "باليرمو"، وهو ما يمثل انتصارًا للإرادة الوطنيّة، وخطوة تاريخية كشفت زيف الادّعاءات الغربية، وبذلك، تحوّل طهران ضغوط FATF إلى ورقة تفاوضية لكسر الحصار، من خلال تنفيذ 90% من متطلبات FATF التقنية والعمل على تعاون مالي شفاف مع دول الجوار وتعزيز التبادل المالي مع الدول الصديقة، والسعي إلى تحرير النظام المصرفي من القيود الظالمة، وخفض تكاليف استيراد الأدوية والغذاء بنسبة 40%.
لكن المعركة لم تنتهِ، فالقوى المعادية بقيادة أميركا و"إسرائيل" تواصل وضع العراقيل، حيث ترفض واشنطن رفع الحظر والعقوبات رغم استيفاء إيران لمعايير المجموعة، في انتهاك صارخ لمبادئ العدالة الدوليّة.
تحمّل الشعب الإيراني تضحيات وتكاليف باهظة (ارتفاع تكاليف الاستيراد 300 - 400% للسلع الطبيّة والغذائيّة رغم الإعفاءات النظرية) نتيجة الحظر الجائر (15 مليار دولار تكلفة الحظر السنوية وفق تقديرات لجنة الاستثمار الإيرانية، بسبب تعقيد التحويلات ورفض التعامل مع البنوك)، لكنّ إصراره حوّل الأزمة إلى فرصة للاكتفاء الذاتي مقابل إصرار أميركا على شروط تعجيزية في اتفاقية مكافحة تمويل الإرهاب (CFT) لتجريم المقاومة المشروعة وضرب جبهة المقاومة تحت ذريعة مكافحة الإرهاب.
رغم الحرب الاقتصادية غير المسبوقة، تكشف الأرقام عن صمود بطوليّ للاقتصاد الإيرانيّ أمام الحروب الهجينة عبر نجاح القطاعات غير النفطية في تعويض 80% من خسائر الحظر (نمو القطاعات غير النفطية عام 2024بنسبة 4.5%)، وتحقيق تقدّم ملحوظ في الصناعات الدفاعيّة (اكتفاء ذاتي بنسبة 80%) والطبيّة المحليّة، والمحافظة على أمن إيران الغذائيّ (نموّ القطاع الزراعي 7%)، والقيام بتبادل تجاري مع 15 دولة عبر مقايضة العملات، رغم العقوبات الجائرة والتضخّم المُزمِن (نسبة 40% سنويًا) والتحدّيات الجديّة الاقتصاديّة، وهبوط احتياطي النقد الأجنبي إلى 30 مليار دولار، وحرمان 40 مليون إيراني من الخدمات المصرفية الدولية.
لقد حوّل الحصار المالي المزمن الجمهوريّة الإسلاميّة الإيرانيّة إلى مختبر للابتكار رغم الصعوبات، مع كلفة عالية.
ممر زنغزور وتوغّل الناتو
في الجبهة الجيوسياسيّة، تكشف بعض الصحف الإيرانية عن مخطّط خبيث يقوده البيت الأبيض وحلف "الناتو" لإقامة "ممر زنغزور" على الحدود الشماليّة الغربيّة لإيران، يربط أذربيجان بتركيا، بوصفها هذا المشروع ليس طريقًا تجاريًا، بل قد يكون رأس حربة لغزو ناعم يُدخل القوات الأميركيّة و"الإسرائيليّة" إلى عمق القوقاز، ويهدف إلى تمكين توغل "الناتو" فيه، مما يطرح المخاوف عن مشروع قد يكون مُقنّعًا بـ"التنمية"، وفق إحدى القراءات التحليليّة، باعتبار أن الممر سيكون معززًا للنفوذ الغربي على حدود إيران الشمالية، وقاعدة متقدّمة لـ"الجماعات التكفيريّة المسلّحة" المموّلة من المخابرات الغربيّة، ونقطة مراقبة للنشاطات الإيرانيّة، ومنفذًا لتغلغل "إسرائيليّ"، بينما تسيطر الشركات الأمنيّة الأميركيّة على الممر تحت غطاء "الاستثمار"، مع احتماليّة وجود أطماع في اقتطاع أراضٍ إيرانيّة تاريخيّة، لكن موقف الجمهورية الإسلاميّة واضح برفض أي تغيير في الجغرافيا السياسيّة، ممّا استدعى القيام بمناورات عسكريّة نوعيّة على الحدود الشمالية الغربية (آب/أغسطس 2025)، وتظاهرات شعبيّة رافضة للمشروع (شهدتها تبريز يوم 10 آب/أغسطس).
عودة القائد الدبلوماسي إلى مواجهة الأزمات
في هذه الظروف الحرجة المفصليّة، يأتي تعيين علي لاريجاني أمينًا للمجلس الأعلى للأمن القومي، وهو الرئيس السابق لمجلس الشورى الإيراني وقائد المفاوضات النوويّة (2013 - 2015)، كرسالة قوية لتعزيز جبهة المقاومة في وجه العاصفة، وقد استهلّ قيادته المعركة الدبلوماسيّة بزيارتيْن إستراتيجيتيْن إلى العراق ولبنان.
يدرك لاريجاني تسارع الأحداث وغياب ترف الوقت، لذلك عمد إلى توقيع "ميثاق دفاع مشترك" أي اتفاق أمني مع "بغداد" لمحاربة الإرهاب وإحباط المخطّطات "الإسرائيليّة" في كردستان وغيرها لزعزعة المنطقة، مضافًا إلى تعزيز التعاون الاقتصادي وتوفير شبكة تجارية بديلة تتجاوز حظر التحويلات المصرفية للتغلّب على عقوباتFATF.
بينما استقطبت زيارته الأضواء إلى لبنان، وزادتها مواقفه الحاسمة في دعم "حزب الله" ومواجهة الضغوط الأميركية - "الإسرائيلية" لنزع سلاحه، وتأكيد دور إيران كحامية للمقاومة وللبنان وسيادته واستقلاله، وبدا محترفًا في تجاوز الخطاب المضطرب للمرتهنين للإملاءات الأميركيّة والمتسلّحين بالعدوان "الإسرائيلي".
قلعة منيعة وتاريخ حافل
تثبت الجمهورية الإسلامية مرة أخرى أنها قلعة منيعة في وجه المشاريع الاستعمارية، تواصل كسر قيود الظلم العالمي عبر التفاوض الحكيم أو المواجهة بشجاعة، ويبقى التفاؤل حذرًا، حول إمكانية خروج إيران من قائمة FATF السوداء بحلول 2026 إذا توصلت لتسوية حولCFT، وتحويل زنغزور إلى منطقة تنافس دولي (روسيا، الصين، إيران)، يقابل ذلك تشاؤم واقعي مع استمرار العزلة المالية وتصعيد العقوبات الثانوية، وإمكانية تدحرج التطوّرات الأمنيّة.
إلّا أن المعركة الحقيقية ليست في القوائم أو الممرّات والانقلابات السوداء، بل في قدرة إيران على اختراق الحصار بتحالفات جديدة وإعادة رسم التوازنات لصالح جبهة المقاومة وتطوير إمكانيّاتها وقدراتها لا سيّما التكنولوجيا المحليّة، وتاريخها مع شعوب المنطقة حافل بقلب السحر على الساحر وتجريعه كأس الخيبة.