نقاط على الحروف

أثار إقرار الحكومة، في جلسة الثلاثاء، الخامس من هذا الشهر، سحب سلاح المقاومة، الصامد أصحابه في وجه أي خطر صهيوني قد يحدق بلبنان، ضجةً سياسية وإعلامية، هذا القرار ترافق مع قرار آخر قضى بتغيير تسمية جادة الرئيس حافظ الأسد إلى جادة الفنان زياد الرحباني، فارتفعت الأصوات المعترضة على هذين القرارين.
المؤلم أن القرار الثاني الذي خطته الحكومة اللبنانية جاء ليدعم القرار الأول، لناحية تكريس معاداة المقاومة ويُظهر وجهًا جديدًا للبنان وهويته. وكلّ من يطلع على تاريخ الصراع مع العدوّ الصهيوني يعلم أن "إسرائيل" معتدية. منذ إعلان دولتها المارقة في العام 1948، اقترفت الفظائع والمجازر ليس فقط في الداخل الفلسطيني، بل حتّى في الجنوب اللبناني، وأولى مجازر الجنوب اِرتكبت في قرية حولا الحدودية، وهجّر أهلها لأول مرة في تاريخ قرى جبل عامل إلى بيروت، وسكنوا في منطقة الكرنتينا وما سمّي بـ"البركسات"، وهي خيم من الزنك، كانت حريقًا في الصيف وغريقًا في الشتاء. من يعرف "بركسات الكرنتينا" ومن لا يعرفها شعر اليوم بلسعتها وهم يرون أن دولتهم تسير نحو اللا أمان، مع تهديدات بشرت أهل الجنوب بـ"بركسات" تبنى لهم في العراق.
وأما قرار تغيير اسم جادة الرئيس حافظ الأسد، والذي لاذ بعض القوى بالصمت عنه، فأشعرَ كثيرين منا بأنه صمت بخنق النَفَس أو صمت بكتم النَفْس. هذا القرار خطير جدًا ويشبه ما فعلته "داعش" و"النصرة" بآثار سورية والعراق التي أشبعتها تدميرًا وتنكيلًا لتمحو تاريخًا من أوائل الحضارات التي شهدتها البشرية. ألم نشهد فيهما تكسير مجسمات تمثل ابن سينا وأبا العلاء المعري وابن النفيس، رموز الحضارة العربية وأبناءها الكبار؟. ولو استطاع هؤلاء لاقتلعوا معلقات بابل من مكانها كما هدم مقام الشيخ صالح في كركوك وفجر مرقد النبيّ شيت في الموصل، منذ العام 2014، وهدم قبر الشيخ نبهان وهو من صوفيي حلب في العام 2012، ونهبت غرفة الحجرات في المسجد الأموي في المدينة والذي يحتوي آثارًا من الرسول الأكرم. حطم "الداعشيون" مدارج مسرح تدمر وكلّ ما لم يستطيعوا حمله ونهبه، وقتلوا عالم الآثار السوري ومدير متحف تدمر، خالد الأسعد، في العام 2015 لأنه رفض التعاون وحمى آثار المتحف. كلّ ما في تدمر يرمز لمملكة عربية حكمت وحاربت روما وبنت عزًا تكالبت عليه القوى العالمية، تمامًا كما يحدث اليوم. فبلادنا التي امتازت بموقعها الجغرافي ما بين شمال الأرض وجنوبها لا تزال
يتصرف الغرب والطامعون مع منطقتنا وأهلها وكأن لهم ثأرًا معنا لأننا طردناهم منها مرة بعد مرة. وسنعود لنطردهم منها ونحررها بالتأكيد، ولكن أن يكون للحكومة اللبنانية ثأر مع رموز مقاومة ومعادية للغزاة فهذا غريب. على كلٍّ الحرب سجال، وأهل البلاد لن يسمحوا لا للعدو ولا لأعوانه بأن يستمروا بالقهر. وهنا تحضرنا مسرحية الرحابنة "ناطورة المفاتيح"، عندما يقول الحكيم للملك الظالم المستهتر برعيته، إن "نقط الشتي ستحفر حيط القلعة"، ويكمل: "والناس متل الشتي ما بتعرف بأي ساعة بينفجروا". من يصدر القرارات بمصادرة الحريات، كمن يصدر القرارات بمصادرة التاريخ النضالي، وكمن يصدر القرارات بمصادرة السلاح، وتعد مصادرة اسم من وقف إلى جانب لبنان والمقاومة ألا وهو الرئيس حافظ الأسد، مصادرة واحدة من أهم مراحل النضال المقاوم في سورية ولبنان وفلسطين. لم يسلك الرجل إلا طريق النضال ودائمًا اعتبر أن اللبنانيين والسوريين شعب واحد في بلدين. لكن المراد اليوم مسح هذا التاريخ وكأنه لم يمر على بلادنا. ومن يحاول فعل ذلك في الحقيقة هو لا يكرم الفنان الكبير زياد الرحباني بل يحاول محو تاريخه المناضل وتاريخ والده عاصي ووالدته السيدة فيروز وعمه منصور.
أنسينا أن "الآن الآن وليس غدًا أجراس العودة فلتقرع" ما تزال تتردّد في ضمائرنا ومآقينا؟ أنسينا "قد كنت يومًا في يافا"؟ أنسينا حفلات معرض دمشق الدولي قبل السبعينيات وبعدها، وأغاني صدحت باسم دمشق وروعتها؟. أنسينا مسرحية "جبال الصوان" وكلمات "غربة" للثوار فيها بعد أن احتل "فاتك المتسلط" المدينة "يلي بيقاتلوا من برّا بيضلوا برا، المصدر جوا"؟. لقد كانت دعوة لقتال المحتل في فلسطين وفي لبنان وسورية وفي كلّ مكان. أنسينا من حمل عاصي، ودون منة، لينقذه ليتم العلاج في فرنسا؟ أنسينا أن دمشق العروبة، ودمشق الأحرار التي ترفض السلام والتطبيع مع العدوّ الصهيوني كانت من أوائل مستمعي الرحابنة، ومن أوائل من قدر فنّ زياد العظيم، ومحبي فيروز الأوائل؟ ما حدث هو إهانة لكل سوري ولبناني حر صبر على الحصار كي تبقى البلاد مستقلة عزيزة.
الصحيح، أن يتم تحويل أسماء الأماكن التي سكنها زياد وقدم فيها أجمل المسرحيات وأهمها مثل مسرح البيكاديللي، وشارع البيكاديللي، إلى اسم زياد الرحباني حيث تمركزت حركة زياد وعرضت إبداعاته، بدلًا من أن يكون باسم ياقة اخترعها الخياط الإنكليزي روبرت بيكر. هناك عشرات الشوارع في لبنان باسم المحتلين الفرنسيين والإنكليز، أم أن هؤلاء يشرّفون لبنان أكثر ممن كان مع لبنان ومقاومته حتّى النفس الأخير؟
لقد كان زياد مع المقاومة حتّى النفس الأخير. كرم المقاومة خلال المقابلات التي أجراها في العشرين سنة الماضية. حمل السلاح وقاوم النظام اللبناني اليميني الذي تعامل مع كيان الاحتلال. جاهر زياد بمحبة سيد شهداء الأمة السيد الشهيد العظيم حسن نصر الله، سمى زياد الرئيس بشار الأسد بـ"الصامد الأول". إن ما حدث ليس إهانة لرئيس مثل حافظ الأسد سيبقى خالدًا في قلب كلّ حر مقاوم، أعجب ذلك من أعجب وكره ذلك من كره، وإنما هو تشويه وتحريف لإبداع زياد الرحباني ومنهج حياته المقاوم. وإن تغيير اسم الشارع فعليًا، هو استتباع لما بدأته "داعش" و"النصرة" من انتهاك تاريخ المنطقة في بلاد الشام والعراق. وإلغاء اسم حر لم يوقع ولم يساوم ولم يستسلم، هو انتهاك لكل من ناضل ضدّ الصهاينة في بلادنا، وإعلان لبداية نهاية عصر المقاومة المطالب به الأميركي و"الإسرائيلي" إيذانًا ببدء عهد "إسرائيل الكبرى. وبعد ذلك سنستغرب ألا يتقلب زياد والرحابنة في قبورهم.