نقاط على الحروف

"ترفع نداء الوطن قلم الأحرار والسياديين المؤمنين بدولةٍ، تصون كرامة الشخص البشريّ وتعدّدية المجتمع"؛ هذا ما تقوله الصحيفة في سياق تعريف نفسها وهويّتها الصحافية في موقعها الإلكتروني. وهو ما يتناقض تمامًا مع المحتوى الذي تقدّمه مع تصاعد وتيرة استهدافها للمقاومة في لبنان، على سبيل التناسي بأنّ هذه المقاومة بأهلها ورموزها وثقافتها ووجهتها السياسية هي مكوّن لبناني، من غير وجوده يفقد هذا المجتمع لا تعدّديته فحسب، أيضًا قيمته الإنسانية والأخلاقية.
وإن كان الخطّ السياسي للصحيفة يهدف أساسًا إلى تغريب المكوّن المقاوم وعزله، في إطار الحرب الإعلامية عليه، وهو هدف لا تضعه الصحيفة بنفسها بل يأتي في إطار تعليمات عوكرية باتت واضحة وحتى فاضحة، فأسلوبها المعادي، بشكل لافت، لكلّ ما يمتّ إلى المقاومة بصلة حوّلها من صحيفة تقدّم رأيًا أخر، حين كانت تتموضع في معسكر واضح الارتباطات تاريخيًا، إلى متراس حقيقي تقوم من خلفه أقلام عديدة باستهداف لبنانيين بشكل مباشر، بصرف النظر عن استطاعة هذه الأقلام إصابة أهدافها أو فشلها في ذلك. فالنيّة معلنة ولا يخجل أصحابها من التباهي بها؛ وهي الحرب على المقاومة.
في الآونة الأخيرة، خصّصت "نداء الوطن" صفحاتها للتصويب على المقاومة، خيارًا ومجتمعًا وسلاحًا وثقافة. والاستهداف تعدّى السياسة ليبلغ حتى "المساجد"؛ فقد أوردت الصحيفة المذكورة تحقيقًا بعنوان: "القلم والمسجد: عنوان التبشير لأمّة الولاية"، رأت فيه أن قيام حزب الله ببناء المساجد أو تأهيلها وترميمها هو استيراد لفكرة إيرانية!" يوحي كاتب المقال، هنا، أنّ المساجد، والتي تُقام فبها صلوات المسلمين، هي مجرّد فكرة "إيرانية" جرى إسقاطها على البيئة "اللبنانية"! ويتابع بأن اهتمام الحزب بالمساجد يهدف إلى استخدامها مراكزَ استقطاب حزبيّ، كما يشير إلى تخصيص زوايا للنساء في المساجد أنه فخّ لاستقطاب النساء وإدخالهن في الإطارات الحزبية.
يتناسى الكاتب، هنا، أنّ وجود المساجد في المناطق الإسلامية عمره من عمر الإسلام، ويتناسى أيضًا أنّ حزب الله منذ بداياته اهتم بالشأن الاجتماعي والإنساني والثقافي والديني، فمن الطبيعي أن يعتني بالمساجد كونها صروحًا دينية ومراكز ثقافية وتبليغية.
كما سطّح فكرة وجود المساجد، داخل بيئة حزب الله، كذلك عمد إلى تسطيح فكرة وجود منابر للصحافة المكتوبة ودورٍ للنشر أسّسها أو يرعاها الحزب. ورأها، أيضًا، فكرة إيرانية، وذكر عددًا من المطبوعات الصادرة عن دائرة حزب الله، منذ الثمانينيات حتى يومنا هذا، وبرأيه هي وسيلة تخدم "مشروع تصدير الثورة الإسلامية في لبنان المتمثل بـ «حزب الله»، قبل أن يختم، "أثرت هذه الأساليب - أي الاهتمام بالمساجد والمطبوعات- في قلوب المتلقين وعقولهم، فأضحى لهذه الجماعة هذا الانتشار والقوة، وبالتالي وجب دراسة هذه الأساليب والتجارب لمعرفة كيفية التعامل مع هذا النهج والرؤية، ليبنى على الشيْ مقتضاه..!
كيف يُبنى على الشيء مقتضاه مثلًا؟ هل يقترح الكاتب، من خلف متراس "نداء الوطن"، أن يُمنع أهل المقاومة من ارتياد المساجد أو الاعتناء بها، ومن إصدار المطبوعات أو قراءتها، كي يحدّ من انتشار الحزب وقوته؟ وهل يقترح إتمام ذلك قبل "نزع السلاح" أم بعده؟
على ذكر "نزع السلاح"، تفرد "نداء الوطن" مساحة كبرى في بحث هذا الملف، وفقًا للمنظور الأميركي طبعًا، فالمبعوث الأميركي "براك" يظهر بعين هذه الصحيفة كرسول يحمل أوامر الألوهة الأميركية. يبشّر كتّابها بتعليماته، ويتعاطون مع "ورقة شروطه" كسيف لا يُردّ ولا تُمنع ضرباته. وأكثر من ذلك، يصيغون أمنياته وكأنّها وقائع مرئية لهم، لا لبس فيها، ولا إمكان لتغييرها. في كلّ عدد ولا سيّما في الأعداد الصادرة في المرحلة الأخيرة، ثمة عنوانين على الأقل يُذكر فيهما براك، أو سيّده ترامب، لا في إطار خبريّ طبيعيّ عن الولايات المتحدّة الأميركية الدولة، بل بصفته آمرًا ناهيًا في الملف اللبناني: تكرّر الصحيفة المواقف الأميركية الصادرة، حتى ولو عن حاجب على باب مقهى في واشنطن، وتقدّمها وكأنّها أحكام مبرمة لا نقاش فيها ينبغي تنفيذها وإلّا!
إليكم على سبيل المثال؛ بعض العناوين اللافتة، والتي يمكن وضعها في إطار التبشير بضرورة التعبّد والانصياع للسيّد الأميركي:"لا تُغضبوا ترامب؛ وباشروا فورًا بنزع سلاح الحزب"، "براك يمهل لبنان حتى ٧ تمّوز"، "ترامب يواكب مهمّة مبعوثه: سنحاول تصويب الأمور في لبنان"، "بعد ضربة ترامب، الدولة لحزب الله: إياكم!"... هذه العناوين وغيرها تأتي على رأس نصوص مليئة بالمغالطات وبالأفكار المنفصلة عن الواقع والمتمترسة في المعسكر الأميركي؛ وتتضمّن أيضًا كمًّا من التحريض الصريح ضد المقاومة من جهة، ومن جهة أخرى الترويج لهزيمتها، والتي لو حدثت واقعًا، لما احتاجت "نداء الوطن" إلى بذل هذا الجهد في مهاجمتها.
إذًا، وعلى سبيل تصويب المغالطات الكثيرة الواردة، في النصّ التعريفيّ التي تقدّمه "نداء الوطن" عن نفسها، كان كافيًا أن تقول "نحن متراس للتبشير بألوهة الأميركي، نستخدم فيه أقلامنا في سبيل التسويق لرغباته والترويج لمواقفه، متخطين بذلك كلّ بروتوكولات الصحافة المكتوبة ومبادىء العمل الإعلامي بشكل عام". لو فعلت ذلك، كانت ستوفّر على القارىء مشقّة تقصّي التناقضات بين "قلم الأحرار والسياديين المؤمنين بدولةٍ تصون كرامة الشخص البشريّ وتعدّدية المجتمع" وبين الحقيقة الظاهرة في المحتوى الذي لا يكتفي بالخضوع التام للأميركي وبالفكر الإلغائي وحسب، حتى يتعداه إلى استهداف المجتمع اللبناني بأطيافه كلها؛ ما عدا البعض المنبطح طوعًا على أعتاب عوكر.