مقالات

إن مشروع "الشرق الأوسط الجديد" الذي يسعى العدوّ الأميركي وأداته الصهيونية إلى فرضه بشكل علني لا يعد مشروعًا "جيوسياسيًا" فقط يقتصر على تقسيمات جغرافية ومناطق للسيطرة على الممرات والمضائق البحرية، وإنما يعد مشروعًا متكاملًا له شروط جديدة في أنظمة الحكم وهياكل الدول أو بالأحرى الدويلات، حيث لم تعد المهادنة والتبعية تكفي لنيل الحكومات للشرعية، بل المطلوب هو العمالة الخالصة والتماهي الكامل مع أجندة المصالح الأميركية والصهيونية.
ولعل ما يرشح مؤخرًا عن مفاوضات التطبيع بين نظام الحكم الجديد في سورية والعدو "الإسرائيلي"، هو مصداق لملامح "الشرق الأوسط الجديد" وفقًا للرؤية الأميركية، حيث يتم مقايضة شرعية الاعتراف ورفع العقوبات بالتنازل عن السيادة والأراضي، وربما التوظيف في مهام إضافية تتعلق بحصار المقاومة واقتطاع أجزاء من لبنان مثل طرابلس وغيرها بديلًا عن الجولان لخلق مناطق عازلة وآمنة على حدود الكيان من جهة، وللقيام بمهام أمنية واستخباراتية بديلًا عن العدوّ والمشاركة في حصار المقاومة وخلق تهديد متقدم لها من داخل الحدود من جهة أخرى.
إن ما يحدث في سورية يدق جرس الإنذار للدولة اللبنانية قبل دقه للمقاومة التي اعتادت على الحصار والعمل في أسوأ الظروف، لأن ما يحاك في مفاوضات التطبيع أو (التفاهم الأمني أولًا) قبل الانضمام التدريجي لـ"اتفاقيات أبراهام"، هو أكبر خطر على السيادة اللبنانية، وعلى كلّ دولة عربية تظن أن حدود "سايكس بيكو" هي حدودها الشرعية.
فمشروع "الشرق الأوسط الجديد" هو نموذج استعماري بديل عن نموذج "سايكس بيكو" والذي تم وضع حدوده لتناسب الوضع الاستعماري الفرنسي في إطار صراع دولي مع الاستعمار البريطاني، بينما اليوم يطرح مشروعًا جديدًا ليلائم الهيمنة الأميركية في صراعها مع الأقطاب الصاعدة في أوروبا وشرق آسيا، وصراعها مع قوى المقاومة بالمنطقة.
وجرس الإنذار الذي يجب أن تسمعه الدولة اللبنانية، هو أنّ "إسرائيل" وراعيها الأميركي لا يعتنون قيد أنملة بسيادة الدول ومركزيتها بما فيها الحكومات الحليفة أو الحكومات التي تؤثر السلامة ولا تريد الصدام وتخشاه، وإنما يريد العدوّ خلق حدود آمنة، إما بالاحتلال المباشر، وهو ما عجز الصهاينة عنه في لبنان بسبب المقاومة وسلاحها الذي يطالب البعض بنزعه، وإما بالتوريط في نزاعات داخلية أهلية أو نزاعات حدودية، أو بالتقسيم وخلق "كانتونات" طائفية وعرقية تنشغل بذاتها ولا يحق لها المطالبة بحدود ولا تتمتع بشخصية معنوية قانونية للمطالبة بالحقوق.
وقبل إلقاء الضوء على ما رشح حديثًا من تقارير تتعلق بالمفاوضات الجارية بين الكيان الصهيوني وحكومة الجولاني الملقب حديثًا بـ"أحمد الشرع"، لبيان خطورة هذه التقارير ودلالاتها، ينبغي التذكير بأهمية سورية داخل الوطن العربي وداخل محور المقاومة وأهميتها الخاصة للبنان، وهو ما تسبب في هذا الاستهداف والانقلاب الحادث على تاريخها وخياراتها:
أولًا: أهمية سورية للوطن العربي معلومة، فهي اشتهرت تاريخيًا بقلب العروبة النابض وخرجت منها أكبر الاطروحات القومية المنادية بالوحدة، وهي من أكبر الدول المركزية ذات الجيوش الوطنية الكبرى، ومركا لوجستي عربي على البحر المتوسط، وممر طرق برية تربط المشرق العربي بالمغرب وخاصة قبل النشأة المشؤومة للكيان، ناهيك عن مواردها وثرواتها وعمقها الحضاري.
ثانيًا: شكلت سورية حلقة ذهبية لمحور المقاومة حيث كانت الرابط بين المحور الممتد من إيران عبر العراق شرقًا ووصوله إلى لبنان غربًا وشكلت دولة مواجهة مع الكيان من جهة، ودولة إمداد ودعم للمقاومة في لبنان.
ثالثًا: تشكّل سورية أهمية خاصة للبنان باعتبار الأواصر المشتركة وتداخل الحدود والعائلات وتعدّ سيفًا ذا حدين بالنسبة للبنان، حيث تعد حامية وداعمة في حالة وجود علاقة التحالف الطبيعية، كما تعدّ تهديدًا كبيرًا في حالة العداء أو وصول نظام حكم يعمل لصالح أجندة الاستعمار.
وهنا لا بدّ من إلقاء الضوء على التقارير الأخيرة المتعلّقة بمفاوضات التطبيع بين الكيان والنظام الجديد في سورية والترتيبات الأمنية التي في ظاهرها مضادة للمقاومة، وفي باطنها تشكّل خطرًا على كامل سيادة لبنان بوضعه وحدوده الراهنة، وذلك تاليًا:
1 - تدور الترتيبات وفقًا لما تم نشره وتسريبه عن اتفاق أمني مرتقب بين "إسرائيل" وسورية: يهدف إلى تعاون سري لمواجهة حزب الله وإيران، وهو ما كشفه الضابط السابق في الجيش "الإسرائيلي"، موشيه إلعاد، والذي أوضح أنّ هذا الاتفاق لا يندرج ضمن إطار اتفاقيات "أبراهام"، مشيرًا إلى أنّ الاتفاق يشمل ترتيبات أمنية جديدة على حدود الجولان، بالإضافة إلى الإعلان عن "مزارع شبعا كمنطقة سورية". كما أضاف أنّ الاتفاق يتضمن دراسة إمكانية تصدير الغاز "الإسرائيلي" إلى سورية، إلى جانب تنسيق في ملف المياه ضمن حوض نهر اليرموك.
وهنا لا بدّ من ملاحظة أن مزارع شبعا الإستراتيجية تريد "إسرائيل" قضمها كما قضمت الجولان وإخراجها من ملف النزاع مع لبنان وذلك بسبب وجود مقاومة في لبنان تسعى لاستردادها وهو ما يخلق عبئًا على الكيان، بينما تحويلها للملف المفتوح مع (سورية الجديدة) هو وضع مريح للصهاينة وأقل كلفة، وهو أمر كاشف لمدى التحول الجذري في سورية من بلد مواجهة إلى بلد (حليف)!
2 - هنالك تقرير خطير يتحدث عن مطالبة الجولاني بضم طرابلس عوضًا عن جزء من الجولان كحل من ضمن حلول التفاهمات الأمنية وكواحد من السيناريوهات المطروحة، حيث نقل مصدر سوري أن هناك سيناريوهين مطروحيْن حاليًّا لـ"التسوية السياسية المقبولة" بين "إسرائيل" وسوريا:
الأول: هو أنّ تحتفظ "إسرائيل" بمناطق إستراتيجية في مرتفعات الجولان تعادل ثلث "أراضيها"، وتسلم ثلثًا لسورية، وتستأجر الثلث الآخر من سورية لمدة 25 عامًا.
والثاني: هو أن تحتفظ "إسرائيل" بثلثي هضبة الجولان، وتُسلم الثلث المتبقي إلى سورية، مع إمكان تأجيره، ووفقًا لهذا السيناريو، تسلم مدينة طرابلس اللبنانية القريبة من الحدود اللبنانية - السورية، وربما مناطق لبنانية أخرى في شمال لبنان وسهل البقاع إلى سورية.
ووفقًا لهذا المصدر، فإن (سورية الجديدة) تسعى إلى استعادة السيادة على طرابلس، وهي واحدة من خمس مناطق اقتُطعت من سورية لتأسيس دولة لبنانية خلال الانتداب الفرنسي، على حدّ تعبيره.
وأشار المصدر إلى أنّ التسوية يجب أن تشمل تسليم طرابلس ومناطق لبنانية أخرى ذات أغلبية سنية إلى سورية، بشرط السماح لـ"إسرائيل" بتمديد خط أنابيب لنقل المياه من الفرات إلى "إسرائيل"، وذلك في إطار اتفاق مائي يشمل تركيا وسورية و"إسرائيل".
وهذا الطرح يجب أن يؤخذ على محمل الجدية لأنه مسرب عمدًا لأحد احتمالين:
إمّا لمزيد من الضغط والتخويف للدولة اللبنانية لدفعها للصدام مع المقاومة حول مسألة نزع السلاح ودفعها للإسراع في ذلك تحت فزاعة التقسيم وانتزاع أراضي لبنان وتنفيذ مخطّط التقسيم.
وإما أنّه يناقش جديًا ويدخل عمليًا لمرحلة التنفيذ استغلالًا لضعف الدولة في التعامل مع الخروقات "الإسرائيلية" والتقاط إشارات ركون إلى الوداعة والقطيعة مع ثقافة المقاومة، وهو ما يترجم فوريًا في القاموس الأميركي والصهيوني إلى ضعف وانحناء وإغراء بالانقضاض على السيادة، وخاصة في ظل تقديم سورية لعرض أفضل وهو التعاون التام وربما الصدام المسلح مع المقاومة بدعم صهيوني وأميركي.
إنّ سورية تم استهدافها منذ العام 1948 بمخطّطات للتقسيم وهي موجودة بأدراج الاستخبارات الأميركية والصهيونية، ودارت هذه المخطّطات حول التقسيم إلى "كانتونات" طائفية وعرقية للقضاء على الدولة المركزية القوية، واستخدام سياسة "الأطراف" بجعل أطراف سورية مع حدودها دويلات إما كردية في الشمال والشرق أو درزية في الجنوب والجولان وعلوية بالساحل ووجود دولة سنية بالقلب وعلى الحدود اللبنانية، وابتكر الصهاينة مؤخرًا تقسيم الدويلة السنية إلى دويلتين، لا بأس أن تكون إحداهما "داعشية" على حدود العراق، وأخرى للجولاني (جبهة نصرة) كما يحلو لأميركا توظيف النظام الحالي.
ولا شك أنّ هذا التقسيم المتوافق مع "الشرق الأوسط الجديد" لن يقف على حدود سورية بل يشمل تعديلات رئيسية على حدود "سايكس بيكو" تدخل إلى لبنان والى العراق وتمتد لاحقًا إلى مصر ودول الخليج.
كما يجب أن تعي الأنظمة أنّ لغة الاملاءات هي اللغة المصاحبة لمشروع "الشرق الأوسط الجديد" وليس الابتزاز أو الضغوط للحصول على أفضل الشروط كما في السابق، وأنّ الحكام الجدد هم من نوعية التابعين الخالصين، من أمثال "أبو شباب" في غزّة والذي أعلنت "إسرائيل" عن قبولها بتسليمه إدارة غزّة، وعلى نمط وديع الجعبري، الذي اقترح "انفصال محافظة الخليل عن السلطة الفلسطينية، ومن ثمّ تأسيس إمارة خاصة بالخليل"، لتنضم إلى "الاتفاقيات الإبراهيمية" مع "إسرائيل"، أو على نمط الجولاني (الشرع) المنفتح على التطبيع والانبطاح أمام الكيان، وعلى كلّ الحكومات المخاصمة والمعادية للمقاومة ألا تعتبر أن عداءها للمقاومة صك أمان لها فذلك لم يعد كافيًا ومتسقًا مع المشروع الجديد!.