نقاط على الحروف

في قطاع غزة المحاصر،يُصارع الأطفال لأجل شربة ماء ولقمة مغموسة بالتراب، تندلع كارثة إنسانية تُقاس بالجثث لا بالأرقام، مأساة تتجاوز وصف المجازر المعتادة لتدخل تصنيفًا قانونيًا أكثر خطورة: جريمة تجويع ممنهجة ترتكبها دولة احتلال بحق شعب بأكمله،لكن خلف هذا الإعلان تقف تحولات قانونية خطيرة في الموقف الدولي من الاحتلال "الإسرائيلي".
في حديث خاص لموقع "العهد الإخباري"، يضع أستاذ القانون الدولي وعضو المجلس المصري للشؤون الخارجية الدكتور أيمن سلامة، النقاط على الحروف في تفسير الأبعاد القانونية والإجرائية التي يفرضها هذا الإعلان على العالم، وعلى منظومة العدالة الدولية، وعلى الكيان الصهيوني.
جريمة حرب مكتملة الأركان
يؤكد سلامة أن ما يحدث في غزة لا يحتاج إلى توصيف سياسي أو تضامن إعلامي، بل هو موصوف بدقة في القانون الدولي جريمة حرب.
ويشرح أن المادة 8/2/ب/25 (xxv) من نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية تُعرّف تجويع المدنيين عمدًا كوسيلة من وسائل الحرب بأنه جريمة حرب، وتشمل هذه الجريمة حرمانهم من المواد التي لا غنى عنها لبقائهم على قيد الحياة، بما في ذلك عرقلة إمدادات الإغاثة".
ويتابع: "كل عنصر من هذه الجريمة متحقق في غزة، بشكل موثق، ومنشور رسميًا من جهات أممية، ما يعني أن هناك ملفاً قانونياً جاهزاً للمساءلة الجنائية الدولية".
اتفاقية جنيف الرابعة: مسؤولية الاحتلال لا تسقط
يحتل الكيان الصهيوني ، بموجب القانون الدولي، أراضي غزة رغم انسحابها العسكري في 2005، بسبب تحكمها بالحدود والمعابر والموارد. وبموجب المادة 55 من اتفاقية جنيف الرابعة لعام 1949، فهي مُلزمة بـ "تأمين الإمدادات الغذائية والطبية للسكان المدنيين".
أما المادة 59 من الاتفاقية نفسها، فتؤكد أنه "إذا لم تكن الموارد كافية، وجب على دولة الاحتلال السماح بعمليات الإغاثة وعدم عرقلتها".
يقول سلامة: "ما حدث منذ أشهر من منع ممنهج لدخول المساعدات، والضغط على سكان غزة حتى الموت جوعاً، هو انتهاك جسيم ينقل مسؤولية إسرائيل من خانة الفشل إلى خانة القتل البطيء المتعمد".
إعلان المجاعة: وثيقة قانونية لا تقبل الإنكار
مع صدور تقرير رسمي من الأمم المتحدة يؤكد دخول غزة في "المرحلة الخامسة" من تصنيف الأمن الغذائي، أي مرحلة المجاعة المؤكدة، يتغير المشهد القانوني جذريًا.
يوضح سلامة: "هذا الإعلان ليس مجرد تقييم فني أو تحذير إنساني، بل هو وثيقة قانونية تُعدّ بمثابة دليل دولي موضوعي، يفرض تحركًا فوريًا بموجب القانون الدولي".
ويضيف أن هذا الإعلان يُلزم: المحكمة الجنائية الدولية بإصدار مذكرات توقيف بحق القادة "الإسرائيليين"؛ ومجلس الأمن الدولي بمناقشة فرض عقوبات بموجب الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة؛كذلك الدول الأعضاء في اتفاقيات جنيف بالتحرك السياسي والقانوني لوقف الجريمة.
لا صمت بعد اليوم: من الأخلاق إلى الالتزام
يشدد سلامة على أن "المسؤولية الدولية لم تعد أخلاقية أو إنسانية فقط، بل أصبحت قانونية ملزمة". فوفق المادة الأولى من اتفاقية جنيف الرابعة، تلتزم الدول "بضمان احترام هذه الاتفاقية في جميع الأحوال".
ويشير إلى أن اتفاقية منع الإبادة الجماعية لعام 1948 تُلزم الدول بمنع الجرائم، لا فقط إدانتِها بعد وقوعها، وأن "الصمت أو الامتناع عن اتخاذ خطوات ملموسة، في ظل هذا الإعلان الأممي، يُعد نوعًا من الشراكة في الجريمة، لا حيادًا".
خطوات قانونية مطلوبة الآن
ويدعو الخبير في القانون الدولي أن المجتمع الدولي التحرك دون تأخير، عبر إجراءات عملية تشمل وقف تزويد إسرائيل بالسلاح والدعم اللوجستي؛
فرض عقوبات اقتصادية وسياسية فورية؛تعليق عضوية الكيان الصهيوني في المنظمات الدولية؛ تقديم دعاوى عاجلة أمام محكمة العدل الدولية لإجبار الكيان الصهيوني على رفع الحصار؛وتحريك الرأي العام العالمي للضغط الشعبي والسياسي من أجل إنهاء هذه الجريمة.
نقطة اللاعودة في سجل الجرائم
ويبيّن المتخصص في القانون الدولي أن التقارير الصادرة عن الأمم المتحدة بشأن الوضع الغذائي في غزة ترتقي إلى مستوى المحضر الجنائي الدولي، وتُسقط كل ذرائع الاحتلال وداعميه.
ويؤكد أن هذا الإعلان يُشكّل: "نقطة اللاعودة القانونية التي تُحاصر إسرائيل بالمساءلة، كما حاصرت هي غزة بالحصار والقتل والجوع".
العدالة تحت الاختبار
وبينما يموت الأطفال جوعًا في غزة "يُختبر القانون الدولي أمام مرأى العالم بحسب سلامة فإما أن ينتصر لمبادئه، أو يتحوّل إلى نصوص جوفاء لا تصلح إلا للتنديد بعد الفوات".
من هنا يمكن القول أن من حق غزة أن تُحاسب قاتليها، ومن واجب القانون الدولي ألا يكون شاهد زور على موت جماعي موثق، مقنن بالنصوص، فإعلان المجاعة دليل لا يمكن تجاوزه، والمجتمع الدولي أمام فرصة أخيرة للعدالة فهل سيتحرك العالم، أم سيكتفي مرة أخرى بإحصاء الموتى؟