اهلا وسهلا...
موقع العهد الاخباري

كانت البداية في 18 حزيران/ يونيو 1984 في جريدة اسبوعية باسم العهد، ومن ثم في 5 تشرين الثاني/ نوفمبر 1999 أطلقت النسخة الاولى من جريدة العهد على الانترنت إلى ان أصبحت اليوم موقعاً إخبارياً يومياً سياسياً شاملاً

للتواصل: [email protected]
00961555712

المقال التالي قانون التجنيد يُفجّر الخلاف مجددًا.. إدلشتاين يتعرض لضغوط وتهديدات

تحقيقات ومقابلات

أميرُ الجهاد.. من ساحة الكشّاف إلى عرش الشهادة
تحقيقات ومقابلات

أميرُ الجهاد.. من ساحة الكشّاف إلى عرش الشهادة

مسعف الجبهات
98

أميرٌ مشى إلى المجد بخطى الواثقين، حمل روحه على كفّه، ومضى نحو الوعد الأزليّ، لا يلتفت إلّا إلى رضا الله ورضا والديه. لم يكن يوم الأول من آذار يومًا عاديًّا، بل لحظة كتبتها السماء بحروف النور حين اختار "السيّد أمير" أن يكون؛ حيث تُصنع البطولة وتُسطّر الملاحم.

سؤالٌ راود قلبه قبل ساعاته الأخيرة: "هل يشعر الشهيد بأهله؟ هل يشتاق إليهم؟"، كأنّه كان يهمس بالرحيل، فاستأذن السماء عبر خيرةٍ جاءه جوابها صريحًا: "طوبى لهم وحُسن مآب". لم يتردّد. مضى نحو الناقورة؛ حيث ارتفع صوت المجد، ودوّى النبأ: استُشهد البطل حسين علي محمّد غزالة (السيّد أمير) على طريق القدس، مقبلًا لا مدبرًا، شامخًا كنخلة الجنوب، فخرًا لعائلته وللقضية التي آمن بها حتّى الرمق الأخير.

مسعف الجبهات

والد الشهيد حسين علي محمد غزالة، والمعروف في الساحة الجهادية بـ"السيد أمير الحاج محمد غزالة"، يروي حكاية ابنه الذي لم يكن مجرّد مسعف أو ممرض، لقد كان مشروع شهيد منذ ولادته : "كانت كلّ حياته جهادًا"؛ يقول الوالد، مشيرًا إلى أنّ الشهيد حسين، على الرغم من عمره القصير – ثمانية وعشرون عامًا فقط – جمع في شخصه أدوارًا لا تُعد: أب لطفلتين، ممرض عطوف، قائد كشفيّ ملهم، ووحيد والديه الذي لم يتوانَ لحظة في سبيل الجبهة.

ولد في كنف عائلة مقاومة، تنشّق روح التضحية منذ الطفولة، وكان اسمه امتدادًا لاسم عمّه الشهيد، وكأنّ القدر اختاره ليكمل طريق الدم والمجد.

منذ نعومة أظفاره، كانت لعبته المفضّلة "البطل المجاهد". لم تكن البنادق البلاستيكية مجرد ألعاب، هي رموز لحلم كبير يسكن قلبه الصغير. كان خجولًا، مفعمًا بالحشمة والحياء، ومحبًا لوالديه لدرجة خوفه أن يجرحهما بكلمة.

كبر حسين وكبرت معه همّته، فكان يعمل ويدرس منذ سنّ السابعة عشر، لا لترفٍ أو لهو، ليبني ذاته بعرق الجبين. دخل عالم التمريض بروح الملاك، يشهد له زملاؤه بأنه كان ملاذ المرضى، يشفيهم باللمسة قبل الدواء، وبالابتسامة قبل الحقنة.

لكن قلبه كان مع الجبهات. التحق بميدان الجهاد مسعفًا حربيًّا، وخاض ساحات القتال في سورية وجرود لبنان، وأخيرًا معركة "الإسناد على طريق القدس" التي ارتقى فيها شهيدًا. لم يترك للراحة متّسعًا في جدوله، كان يرى في العمل المقاوم زينة الدنيا، وفي العلم سلّم العروج إلى الله.

من كشفي صغير إلى شهيد كبير على درب القدس

بصوت يملؤه الفخر، تقول الحاجة ابتسام حسن، وهي والدة الشهيد حسين غزالة، إنّ ابنها لم يسير على درب الجهاد صدفة، بل تربّى عليه منذ نعومة أظفاره، وارتوى من قيم أئمة أهل البيت- عليهم السلام -حتّى أصبح قائدًا.. وشهيدًا.

تفتخر الأم بأنّها ربّت الشهيد حسين "لهذا الطريق"، وهو ابن الرابعة حين انضمّ إلى الكشاف، وكان يرى فيه المدرسة الأولى لتربية النفس وتزكيتها، وبوابة الجهاد الحقيقي. خاض المراحل الكشفية كلها، من براعم صغيرة إلى قائد فرقة جوالة، وكان في كلّ مرحلة يتقلّد دورًا بروحية عالية وهدوء مُهيب.

لم يكن حسين مجرّد عنصر كشفي، كان قدوة. تروي أمّ الشهيد كيف كان يتعامل مع كلّ عنصر باسمه، يتابع غيابه، يتّصل بأهله، ويحاول حلّ أي مشكلة تمنعه من الحضور. لم يكن القائد "المتسلّط"، بل الراعي الحنون، وكان همّه الدائم هو ألّا يُقصّر أحد في مسيرته الكشفية، لأنّه كان يرى فيها جسرًا إلى الجهاد الأكبر، وعلى الرغم من انشغاله بعمله الجهادي، لم يتخلّ يومًا عن واجباته الكشفية. 

قلبٌ بين المعركة والمنزل

كان الشهيد حسين قلبًا نابضًا في منزله. تقول زوجه دينا سلام، إنّ أكثر ما ميّز حسين هو رقّة قلبه وعاطفته التي كان يغمر بها ابنتيه الصغيرتين، بتول وسارة، اللتين لم يفارقا باله لحظة حتّى في ساحات القتال. "بتول وسارة شمعةُ سنيني.. بحبّكن كتير يا بابا"، هكذا كان يردّد دائمًا.

تروي الزوجة أنّ الشهيد حسين كان نعم الرفيق والسند، لا يعلو له صوت في المنزل، ولا يُرى منه تقصير. وعلى الرغم من غيابه المتكرّر، بفعل التزاماته الجهادية، لم يترك مسؤولية إلا وكان يحمل همّها.

مشهديّة العروج إلى الشهادة

في الجلسة الأخيرة التي جمعته بعناصر فرقته الكشفية، اختار الشهيد حسين علي غزالة أن يكون عنوان اللقاء "اللي بتقاتل فينا هي الروح". لم تكن كلماته عابرة، كانت مرآة لما كان يسكن قلبه. روى أحد المقرّبين منه أنّه في تلك الجلسة، كان وجه حسين يفيض بنور داخلي غريب، وكأنّه يستعدّ للرحيل. تحدّث كثيرًا عن الجهاد، عن الروح التي تقاتل لا الجسد، وعن بريق الشهادة.. وما هي إلا أيام، حتّى مضى ليكتب اسمه على لائحة الخالدين.

لم يكن حسين يومًا غائبًا عن ميادين الناس أو ساحات الواجب. عرفته بلدته، ومحبوه، ومَن عملوا معه مسعفًا في لجان الهيئة الصحية خلال أزمة كورونا. خاض حروب الجرود وسورية، وشارك بكلّ جسده وروحه في معركة إسناد غزّة، وهناك نال وسام الشهادة الذي لطالما اشتاقت له روحه.

قُبيل استشهاده، ازداد بريق النور في وجهه، كما يروي مَن عرفه. صار كثير الحركة، لا يهدأ في خدمة الناس. تعلّقه بالجهاد ازداد، فحمل ورقة موافقة والديه – كونه وحيدًا – وهو يبتسم وكأنّه يضمّ كنزًا، مردّدًا عبارته التي حفرت في قلوبهم: "الأرواح ترخص أمام العرض والشرف والكرامة والوطن".

وفي يوم أحد، يوم راحته، طلب بنفسه من مسؤوله الذهاب إلى العمل، مُصرًا على أداء الواجب، وكأنّ الأرض لم تعد تتّسع لروحه التائقة للسماء.

"السّيد أمير" يُجيب نداء السماء

عند التاسعة والنصف من صباح يوم الأربعاء، في 1 آذار/مارس 2024، دوّى الخبر: غارة على بلدة الناقورة. بدأ المحبّون بالاتّصال.. لكن الهاتف صامت، خارج التغطية. بعد وقت قصير، انتشرت الأنباء: أحد شهداء الغارة بطلٌ من بلدة عدلون، شهيدٌ على طريق القدس.. إنّه "السيد أمير".

رحل "السّيد أمير" تاركًا خلفه سؤالًا لا يحتاج إلى جواب. فكلّ من عرفه يعلم: نعم، الشهيد يشعر، يشتاق، ويمنحنا من روحه نورًا لا ينطفئ.

 

الكلمات المفتاحية
مشاركة