اهلا وسهلا...
موقع العهد الاخباري

كانت البداية في 18 حزيران/ يونيو 1984 في جريدة اسبوعية باسم العهد، ومن ثم في 5 تشرين الثاني/ نوفمبر 1999 أطلقت النسخة الاولى من جريدة العهد على الانترنت إلى ان أصبحت اليوم موقعاً إخبارياً يومياً سياسياً شاملاً

للتواصل: [email protected]
00961555712

المقال التالي بابا الفاتيكان يطالب نتنياهو بوقف الحرب بعد قصف الكنيسة في غزة

مقالات

من أدغال فيتنام إلى أنفاق غزّة: فنّ الكمين في مواجهة القوّة الغاشمة
مقالات

من أدغال فيتنام إلى أنفاق غزّة: فنّ الكمين في مواجهة القوّة الغاشمة

111

في عالم يبدو فيه أن "القوّة تصنع الحق"، حيث الطائرات تقرر مسار الدول والدبابات ترسم حدود الخرائط، يظهر الكمين العسكري بوصفه الفعل الأكثر تواضعًا وفتكًا في آنٍ معًا. إنه اللحظة التي تنقلب فيها معادلة الحرب: من الأعلى إلى الأسفل، من الغازي إلى المُقاوِم، من جبروت التقنية إلى حكمة الأرض. وفي هذا الإطار، لا يمكن فهم ما يجري اليوم في شوارع غزّة المحطّمة، وفي أزقتها وأنفاقها، دون استحضار تجربة الفيتكونغ في أدغال فيتنام. فكما حوّل الفيتناميون الغابة إلى حليف إستراتيجي، تُحوّل المقاومة الفلسطينية اليوم الخراب إلى كمين، والأنقاض إلى هندسة قتالية، والضيق إلى فرصة.


الكمين: حيث تتعرّى "الحضارة" أمام تكتيك الفقراء


لطالما كان الكمين هو التعبير الأكثر جذرية عن جوهر حرب العصابات: هجوم الضعيف على القوي، الفعل المنظم في زمن الفوضى، وتفكيك الغطرسة بالتوقيت والمفاجأة. وفي هذا السياق، ليس الكمين مجرد عملية عسكرية، بل هو بنية عقلية، نموذج معرفي، كما يسميه فوكو، يُحوّل اختلال ميزان القوى إلى فرصة قلب الطاولة.


لقد أتقن الفيتكونغ هذا الفن؛ فبين الأشجار والأنفاق وتحت الضباب، تفككت الأسطورة الأميركية عن الجيش الذي لا يُهزم. وكما في كمين "كو رون" أو معركة "التل 875"، لم يكن الهدف هو قتل أكبر عدد من الجنود فحسب، بل قتل معنوياتهم، وكسر شعورهم بالأمان، وزرع الشك في كلّ خطوة على الطريق.


واليوم، تعيد غزّة إنتاج هذه القاعدة نفسها، وإنْ اختلفت الجغرافيا. ليس هناك غابات هنا، بل بقايا أحياء مدمرة. ليست هناك تلال ولا أدغال، بل أنفاق محفورة بدقة، تُفضي إلى ممرات ضيقة حيث تختفي التكنولوجيا وتبدأ المعركة الحقيقية: رجل في وجه رجل، إرادة في وجه ماكينة.


"إسرائيل" الغطرسة المتكرّرة

كما فشلت واشنطن في فهم طوبوغرافيا المعركة في فيتنام، تُكرّر "إسرائيل" الفشل ذاته. فهي تدخل جباليا، ثمّ تنسحب، ثمّ تعود لتدخل، وكأنها ترفض الاعتراف بأن السيطرة العسكرية لا تُترجم إلى سيطرة سياسية. وكما لم تنجح أميركا في اجتثاث الفيتكونغ رغم آلاف الأطنان من القنابل، تعجز "إسرائيل" اليوم عن إخضاع غزّة، رغم قدرتها على تحويل مدينة كاملة إلى ركام.


ما يجري ليس "تكرارًا" فقط، بل "عناد استعمار" يُحاول نفي الواقع. "إسرائيل" لا تملك مشروعًا لغزّة، ولا رؤية لما بعد الحرب، سوى التدمير والانتظار، انتظار انهيار داخلي في حماس، أو ضغط أميركي، أو نفاد الصبر الشعبي. لكنها، كما حدث مع إدارة جونسون ونيكسون، تكتشف أن طول الحرب لا يجلب النصر، بل يُنضج الهزيمة.


المقاومة.. حين تصبح الأرض حليفًا


بينما تستنزف "إسرائيل" نفسها في محاولة إعادة احتلال الشريط الحدودي في رفح أو محيط خان يونس، تُدير المقاومة المعركة بحنكة تشبه ما قام به الجنرال الفيتنامي فونغ نغوين جياب. لا يتعلق الأمر بالدفاع فقط، بل ببناء بنية تحتية كاملة للكمائن: أنفاق، عبوات، مصائد نارية، وشبكة معرفة دقيقة بتحركات العدو، تكشف كم أن الاستخبارات "الإسرائيلية" باتت عمياء في مواجهة هذا العمق الأرضي المعقّد.


فالكمين، كما يتجلى في عمليات مثل بيت حانون أو الشجاعية أو شرق التفاح، ليس فعلًا عشوائيًا. إنه فعل هندسي، معرفي، ونفسي. تبدأ العملية باستدراج الدورية أو القوّة الهندسية إلى منطقة قتل معدّة مسبقًا، ثمّ تفجير أولي يشل الحركة، يليه اشتباك من مسافة صفر، تتبعه ضربة مضادة للآليات المدعّمة. هذه هي بنية "الكمين المركب" التي تُحوّل جيشًا من النخبة إلى كومة من الخسائر والخيبة.


حرب الصور.. حين يفقد القوي حق السرد


ما الذي جعل كمينًا بسيطًا في خان يونس يُحدث هذا الأثر السياسي؟ إنها الصورة، الفيديو، اللقطة التي تُظهر "الجندي الإسرائيلي"  يفرّ، والمقاوم ينتزع سلاحه، ويغادر بهدوء. هذه ليست فقط لحظة نصر ميداني، بل لحظة كسر رمزي. إنها إعادة بناء للرواية من القاع: من حيث لا يملك الفلسطينيون إعلامًا عالميًا، ولا لوبيات ضغط، لكنّهم يملكون "الكاميرا في وجه الجندي".

إنها في حد ذاتها لحظة تشومسكية بامتياز: حين تنقلب الدعاية إلى عبء على مروّجها. "إسرائيل"، التي طالما ادّعت احتكار "الأخلاق" في ساحة القتال، تجد نفسها اليوم مضطرة لتبرير قصف مستشفيات وأطفال، بينما تُظهر المقاطع أن الرد الفلسطيني محصور في كمائن تستهدف وحدات النخبة.


المعركة النفسية.. عدو لا يُرى


كما عانى الجنود الأميركيون في فيتنام من الرعب الوجودي: "أين هو العدو؟"، يعيش "الجنود الإسرائيليون" اليوم في كابوس مماثل. كلّ بيت مهدّم قد يكون مدخل نفق، كلّ شجرة قد تُخفي سلاحًا، كلّ تقدم قد ينتهي بكمين. ومن يعرف التجربة الأميركية في فيتنام، يدرك أن هذا النوع من الحرب لا ينتج فقط قتلى، بل ينتج جيوشًا منهارة نفسيًا.


ليست المسألة أرقامًا فحسب. إنها تحوّل "جندي الاحتلال" من رمز للسيطرة إلى كائن مذعور، لا يعرف إن كان سيعود حيًا، ولا لماذا يقاتل أصلًا. وهنا يكمن جوهر الصراع: المقاومة ليست تحارب فقط لإخراج الجيش، بل لتفكيك الأسطورة التي بنى عليها الاحتلال مشروعيته الوجودية.


الكمين كأداة تفكيك للمشروع الصهيوني


بعيدًا عن التفاصيل العسكرية، ينتمي الكمين إلى جغرافيا أعمق: إنه جزء من تفكيك المشروع الكولونيالي نفسه. كما ساهمت حرب العصابات في الجزائر وفيتنام في إسقاط وهم "الاستعمار المتمدن"، تفعل غزّة اليوم الشيء نفسه. الكمين هنا ليس فقط لتدمير ناقلة جند من نوع "نمر" كما حدث في الأمس بخان يونس، بل لتدمير وهم أن "إسرائيل" تستطيع "العيش الطبيعي" فوق أنقاض الآخرين.


فكل عملية تفجير لدبابة "ميركافا"، كلّ استهداف لوحدة "يهلوم"، وكلّ  انسحاب لقوة مشاة بعد كمين دقيق، يعيد ترتيب المعادلة: من يملك السلاح ليس بالضرورة من يملك القرار. المقاومة، عبر الكمين، تُمارس السيادة: إنها من تقرر زمن القتال، مكانه، ومداه.


حين تنقلب الغطرسة إلى عبء


إن الحرب، كما يُعلّمنا التاريخ، لا تُحسم بالضرورة بمن يملك المدى الأطول أو الطائرة الأذكى. تُحسم أحيانًا بمن يملك الصبر، والفهم الأعمق لطبيعة المعركة. فيتنام هزمت الولايات المتحدة ليس في الجو، بل تحت الأشجار. وغزّة قد لا تهزم "إسرائيل" بالصواريخ، بل بالأنفاق والكمائن.


الكمين، في هذا السياق، ليس أداة تكتيكية، بل إعلان سياسي: لا سيطرة لكم هنا، لا أمن، لا نصر. هنا، نحن نعيد كتابة تاريخ الجغرافيا، نُعيد تعريف معنى الأرض، ونقول لكل قوة غاشمة: من أراد أن يحتل فعليه أولًا أن يمرّ من تحت ركام إرادتنا.


وكما قلنا سابقًا: "حينما تفشل القوّة الغاشمة في إخضاع الضعفاء، ينكشف وجه الإمبراطورية الحقيقي، ويبدأ العد التنازلي لانهيارها".


وغزّة، بكلّ فداحة تضحياتها، تكتب هذا العد التنازلي اليوم، بدماء مقاتليها، بحكمة أنفاقها، وبفنّها المتقن في نصب الكمين.

 

الكلمات المفتاحية
مشاركة