مقالات

يبدو أن مبادرة الحزام والطريق الصينية ستظل محاطة بالحروب والقلاقل على امتداد طرقها ومعابرها وممراتها البرية والبحرية بسبب الجوهر الجيوستراتيجي للمبادرة وعلاقتها بتشكيل نظام عالمي جديد، وهو ما شكلت الاشتباكات الأخيرة بين باكستان وأفغانستان أحدث تجلياته بالعديد من الشواهد والأدلة وتطبيق قاعدة البحث عن المستفيد.
ورغم أن العديد من الصراعات لها جذور تاريخية وأسباب متعددة تسبق الصعود الصيني ومبادرته ومشروعاته، إلا أن إذكاء هذه الصراعات وتعميقها وإشعالها ليس بعيدًا عن الولايات المتحدة والكيان "الإسرائيلي" والمشروعات "الجيوستراتيجية" المنافسة مثل مشروع الممر الهندي الذي يشكّل منافسًا مباشرًا للمشروع الصيني وعلى علاقة مباشرة بـ"الشرق الأوسط الجديد" ومشروع "إسرائيل الكبرى" بغرض الحفاظ على الهيمنة الأميركية والحفاظ على تفوق القطب الأميركي كقوة عظمى أولى.
هنا سنحاول الإضاءة بشكل مختصر على الاشتباكات الباكستانية الأفغانية الحديثة والتي تسير في مسار متصاعد منذرة بتحول "جيوسياسي" في موازين القوى والتحالفات، وربما عودة أميركية لوّح بها الرئيس الأميركي عندما أبدى رغبة في العودة لقاعدة "باغرام" وتحدث عن أهميتها لأميركا.
وهذه الإضاءة تتم عبر استعراض عدة عناوين تشمل تطوّر الأحداث وشواهدها اللافتة وربطها بالصراع وطبيعته، وذلك كالآتي:
أولًا: الحرب الأخيرة بين باكستان وأفغانستان وتطوراتها
في 8 تشرين الأول/أكتوبر الجاري، أعلن الجيش الباكستاني مقتل 11 من جنوده في اشتباك مع عناصر من حركة "طالبان باكستان"، وأن 19 من أعضاء الحركة قُتلوا في الاشتباك الذي وقع في إقليم "خيبر بختونخوا" على الحدود مع أفغانستان.
ثم تطوّرت الأمور وصولًا إلى إغلاق المعابر وأهمها المعبران الرئيسيان بين باكستان وأفغانستان، في "طورخم وتشمن".
ورغم الوساطات السعودية والقطرية إلا أن الاشتباكات مستمرة، وتتميّز اتفاقات وقف إطلاق النار بالهشاشة مما ينذر بتصعيد الأمور.
ثانياً: ملابسات وشبهات
شهد هذا العام عدة تطوّرات لافتة لا يمكن اعتبارها مصادفات مع تجدد الاشتباكات الراهنة، ويمكن هنا رصد أهمها:
1 - في آذار/مارس 2025 شهدت العلاقات بين الولايات المتحدة وحركة "طالبان" تطوّرات لافتة تعكس تحولات إستراتيجية في السياسة الأميركية تجاه أفغانستان، وتمثلت في زيارة وفد أميركي رفيع المستوى إلى كابل، وكان الهدف المعلن هو إطلاق سراح المعتقل الأميركي "جورج غولزمان" من قِبل "طالبان"، ثمّ العفو الأميركي وإلغاء المكافآت المالية المرصودة لملاحقة قادة شبكة حقاني، وتزامن ذلك مع تصريحات "طالبان" برغبتها في "فتح صفحة جديدة" مع أميركا.
2 - في أيار/مايو الماضي، عقدت الصين اجتماعًا ثلاثيًا بين وزراء خارجية الصين وباكستان وأفغانستان واتفقوا على تعميق التعاون في إطار مبادرة "الحزام والطريق" الصينية، وتوسيع الممر الاقتصادي الصيني - الباكستاني ليشمل أفغانستان، وتم عقد اجتماع جديد في كابول في آب/أغسطس الماضي.
3 - في أيلو/سبتمبر الماضي، وبعد أقل من شهر من اجتماع كابول الثلاثي، صرح الرئيس ترامب في مؤتمر صحفي مع رئيس الوزراء البريطاني كير ستارمر في لندن أن واشنطن تحاول استعادة قاعدة "باغرام" القريبة من مواقع صينية إستراتيجية، مضيفًا: "نريد استعادة تلك القاعدة"، ثمّ وجه ترامب تهديدًا صريحًا عبر منصته "تروث سوشيال"، حيث قال إنه إذا لم تُعد أفغانستان قاعدة "باغرام" الجوية إلى سيطرة الولايات المتحدة فإن "أمورًا سيئة" ستحدث.
4 - في 9 تشرين أو/أكتوبر وتزامنًا مع بداية الاشتباكات، وصل وزير الخارجية الأفغاني أمير خان متقي إلى الهند في زيارة غير مسبوقة والمعلن منها أنها لإجراء محادثات تهدف إلى تعزيز العلاقات الاقتصادية مع نيودلهي، واللافت أن رحلة الوزير الأفغاني أعلن أنها ستستمر لمدة 6 أيام وهذا شاهد كبير على علاقة ذلك بالصراع المندلع وتطورات الاشتباكات ورسالة واضحة بدعم الهند للموقف العسكري والسياسي الأفغاني.
ثالثًا: علاقة الحزام والطريق الصيني بالصراع
رغم أن جذور الصراع تعود إلى النزاع حول "خط دوراند"، وهو خط الحدود الذي رسمه البريطانيون عام 1893 بين أفغانستان والهند البريطانية، وتمسك باكستان بهذا الخط، وهو ما تعتبره حكومة "طالبان" تقسيمًا للقبائل البشتونية التي تعيش على جانبي الحدود، وهو ما أسفر عن تشكّل حركات انفصالية مثل "جيش تحرير البلوش" وتشكّل حركات معادية لباكستان مثل حركة "طالبان" باكستان والتي تتهم باكستان حكومة "طالبان" بدعمها، إلا أن تركيز الهجمات على طرق ومعابر مشروع الممر الصيني بدت لافتة وخاصة في ظل وجود مشروع منافس يصب في صالح الميزان الهندي وسط اتهامات وشواهد واضحة بتبني الهند للحركات الانفصالية والمعادية لباكستان.
وباتفاق الخبراء، فإن أكبر مشاريع المبادرة الصينية حتّى الآن هو الممر الاقتصادي الصيني الباكستاني (CPEC)، الذي تبلغ تكلفته 62 مليار دولار، وهو عبارة عن مجموعة من المشاريع تربط الصين بميناء جوادر الباكستاني على بحر العرب.
ويتمتع ميناء جوادر بموقع إستراتيجي عند مصب مضيق هرمز على بحر العرب، وكان ميناءً مهجورًا في السابق، وقد أُعيد إحياؤه كجزء من التطوير الأوسع للممر الاقتصادي بين الصين وباكستان، وتعتبر السلطات الباكستانية جوادر الآن "جوهرة تاج" الممر الاقتصادي.
إلا أن مقاطعة بلوشستان، الواقعة جنوب غرب باكستان، والتي تعد جزءًا لا يتجزأ من نجاح مشروع الممر الاقتصادي بين الصين وباكستان، وإحدى ركائز مبادرة الحزام والطريق الصينية في جنوب آسيا هي بؤرة الصراع والاشتباكات والتي شهدت هجمات انتحارية واستهدافات متواصلة.
وقد كانت المصالح الصينية في باكستان على رأس أهداف الهجمات الانتحارية، إذ تم استهداف حافلة للمهندسين الصينيين الذين يعملون في الممر الاقتصادي الصيني - الباكستاني في منطقة "تشاغاي" عام 2018، كما تم استهداف القنصلية الصينية في "كراتشي" في العام نفسه، إضافة إلى الهجمات الانتحارية على فندق "بيرل كونتيننتال" في "غوادر" عام 2019، وقسم "كونفوشيوس" (تعليم اللغة الصينية) بجامعة "كراتشي" عام 2022. وردت باكستان على هذه الهجمات بتصنيف "جيش تحرير البلوش" منظمة إرهابية.
وتصور المنظمة الانفصالية المسلحة في موادها الدعائية مشروع الممر الاقتصادي مشروعًا استعماريًا مثل "شركة الهند الشرقية" البريطانية، وقد أصدرت المنظمة تحذيرًا مباشرًا لبكين بعد استهداف عدد من المواطنين الصينيين والمشاريع الصينية في باكستان لإنهاء مشاريعها التنموية في بلوشستان.
وهناك تقارب بين حركة "طالبان باكستان" التي شنت الهجمات الأخيرة والانفصاليين البلوش، وظهرت أولى علاماتها عندما انضمت مجموعتان من المسلحين البلوش، فصيل "مزار بلوش" وفصيل "أسلم بلوش" إلى حركة "طالبان" باكستان.
كما أصبح الانفصاليون البلوش يستخدمون الأسلحة الأميركية بشكل متزايد - والتي خلفتها القوات الأميركية وراءها قبيل انسحابها من أفغانستان - ضدّ القوات الأمنية والعسكرية الباكستانية. وهناك احتمال أن يكون الانفصاليون البلوش قد حصلوا على أسلحة أميركية من حكومة "طالبان" الأفغانية التي استولت على مخزون كبير من الأسلحة الأميركية عندما سيطرت على كابل وغيرها من المدن الأفغانية.
وتفيد التقارير بأن الانفصاليين البلوش وحركة "طالبان" باكستان لديهم نفس شبكات الإمداد والتهريب لنقل قواتهم وأسلحتهم في المنطقة عبر الشريط الحدودي، وهناك أدلة على اجتماعات بين القادة الكبار للحركتين في السنوات الأخيرة، وهناك شواهد على تعاون تكتيكي وعملياتي على المستويات غير الرسمية والفردية.
ويذهب مسؤول حكومي باكستاني إلى أبعد من ذلك، حيث يشير إلى أن التقارب بين حركة "طالبان" الباكستانية والجماعات الانفصالية البلوشية جاء بمساعدة من الاستخبارات الهندية.
رابعًا: اغلاق المعابر والضرر بالممر الصيني:
يعد معبر "تشمن" في مقاطعة "سبين بولدك" من أهم وأخطر المعابر الحدودية بين أفغانستان وباكستان، ويُعتبر نقطة إستراتيجية رئيسية في الجغرافيا السياسية لجنوب آسيا.
والمعبر جزء من الطريق البري الذي تسعى الصين لتوسيعه ضمن مبادرة "الحزام والطريق"، ويشكّل أي اضطراب في "سبين بولدك" تهديدًا مباشرًا لمسار الإمداد الصيني بين "شينجيانغ" و"جوادر" مرورًا بأراضي باكستان وأفغانستان.
والخلاصة أن معظم الصراعات والحروب الأخيرة وأحدثها الاشتباكات بين باكستان وأفغانستان يتم تغذيتها واختلاق حوادثها لملاحقة المشروعات "الجيوستراتيجية" وأن أميركا وأدواتها الاستخباراتية تذكي هذه الصراعات لإفشال المشروعات تارة، أو لإعادة نفوذها وتموضعها تارة أخرى، وتقع الشعوب دوما ضحية لهذه المطامع والسعي الدائم للهيمنة والاستعمار.