مقالات

عندما نصف "إسرائيل" بأنها "أوهن من بيت العنكبوت"، فليس ذلك من قبيل الشعارات العاطفية والتعبيرات الجوفاء، وإنما هو تعبير دقيق عن حقيقة عسكرية وسياسية تكشفها ممارسات هذا الكيان منذ نشأته حتّى اليوم، وكشفتها أكثر مع طوفان الأقصى الذي كاد يقضي على الكيان المجرم المحتل، لولا التدخل الأميركي والدعم الغربي لحمايته وإنقاذه ليقف على قدميه من جديد.
إن الهزة الكبرى التي حصلت لهذا الكيان تجعله يترنح إلى اليوم، فرغم أن "إسرائيل" تمتلك أحدث الأسلحة وأكثرها فتكًا، من طائرات مقاتلة متطورة وأنظمة دفاع جوي متقدمة وصواريخ ذكية، وتستفيد من دعم غير محدود من أقوى دول العالم — أميركا وأوروبا — إلا أن هذه الترسانة الضخمة لم تمنحها الثقة الكافية بالأمن المفقود، ولا بالردع الضائع، ولا تزال تشعر بالضعف والعجز والوهن. وكلما فكر قادتها المجرمون، ازدادوا إجرامًا وتوحشًا وصبّوا حمم تلك الأسلحة على كلّ شيء في غزّة لقتل النساء والأطفال، وما حرب التجويع الأخيرة إلا جزء من هذا التوحش، وتعبير عن ذلك الخوف الذي لم يبارح عقلية قادتها المنهزمين من الأعماق.
هذه الحقيقة تتجلى في اشتراط واحد من أقوى الجيوش في المنطقة، عدةً وعتادًا وتدريبًا وتسليحًا وتقنيةً، نقطة موضوع السلاح ونزعه في غزّة أو لبنان، وحتّى جنوب سورية، رغم الفرق الهائل في التسليح لصالح هذا الكيان الذي لا يقبل بوجود أي سلاح —مهما كان بسيطًا— في يد خصومه.
هناك حقيقة تقف خلف هذه الشروط؛ إذ لو كانت "إسرائيل" قوية حقًا بما يكفي لحماية نفسها وردع أعدائها، لما كان شغلها الشاغل هو نزع سلاح هؤلاء الأعداء، حتّى البسيط منه، كالأسلحة الفردية أو البنادق التقليدية مثل الكلاشينكوف. إن الكيان الذي يمتلك أسلحة نووية وترسانة متطورة، ومع ذلك يرتعد من رصاصة بندقية بسيطة، يكشف بنفسه عن هشاشته الداخلية وخوفه المزمن من زوال وجوده الذي يقوم أساسًا على القوّة وحدها لا على الحق أو الشرعية.
بحسب تقارير معهد ستوكهولم الدولي لأبحاث السلام (SIPRI)، تخصص "إسرائيل" نحو 4.5% من ناتجها المحلي الإجمالي للانفاق العسكري، من بين أعلى النسب عالميًا. وتمتلك واحدة من أكثر القوات الجوية تقدمًا، بأسطول يضمّ طائرات F - 35 الحديثة، إضافة إلى منظومات دفاع جوي معقّدة مثل "القبة الحديدية" و"مقلاع داوود". كما يُقدّر أن لديها مخزونًا نوويًا غير معلن يتراوح بين 80 و200 رأس نووي، بحسب مصادر غربية.
إلى جانب انعدام شرعية الوجود والحق في الأرض، فإن ضعف "إسرائيل" الحقيقي يكمن أيضًا في هشاشة كيانها من الداخل: مجتمع مفكك، تركيبة سكانية متنافرة، اقتصاد مرتهن للدعم الخارجي، واعتماد كامل على المظلة الغربية. لذلك، فهي تدرك جيدًا أن أي مقاومة شعبية، ولو كانت بسيطة، قادرة على زعزعة صورتها وإفشال مشروعها. إن بيت العنكبوت في ظاهره معقّد ومنسوج بدقة، لكنّه في حقيقته أضعف البيوت وأسرعها انهيارًا أمام هبّة ريح أو لمسة يد. وهكذا هي "إسرائيل" اليوم: ظاهرها قوة تكنولوجية وعسكرية هائلة، وجوهرها خوف دائم من بندقية مقاوم أو حجر طفل يلوّح بحقه في الأرض والحرية.
أمام لبنان، الذي يدّعي هذا العدوّ أنه حقق إنجازًا فيه —ولن نختلف هنا أنه قد حقق فعلًا إنجازًا باغتيال قادة حزب الله، وعلى رأسهم شهيد الأمة السيد نصر الله— فإن هذا الإنجاز لا يزال غير ذي مردود على الكيان من حيث الردع أو توفير الأمن على المدى القريب فضلًا عن المدى المتوسط والبعيد، حيث بقي هناك سلاح ومقاوم ومجاهد قادر على استخدامه ضدّ هذا العدوّ في أي وقت.
عندما وقف شهيد الإسلام والإنسانية السيد حسن نصر الله في قلب مدينة بنت جبيل على الحدود الجنوبية للبنان عام 2000، ثمّ كرّرها بعد انتصار المقاومة في حرب تموز 2006، مستشهدًا بالآية القرآنية: "مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنكَبُوتِ" (العنكبوت: 41)، كان يضع يده على جوهر المفارقة التي تُعرّي هذا الكيان: بيت عنكبوت متشابك الخيوط من الخارج، هشّ الأساس من الداخل. هذه العبارة، التي تحوّلت إلى شعار في الوعي الشعبي المقاوم، أصبحت لاحقًا عنوانًا لمفارقة القوّة الظاهرة والهشاشة البنيوية التي تحكم الكيان "الإسرائيلي" حتّى يومنا هذا.