نقاط على الحروف

منذ تكليفه بمنصب رئيس الحكومة في لبنان حتّى الساعّة، لم يكفّ نوّاف سلام عن صناعة "الإنجازات الوطنية"؛ تتسارع الأحداث، لكنّها لا تضاهي سرعته في تسطير المآثر التي سيُضطر المستقبل إلى تخصيص حيّزٍ خاصٍ بها في كتب التاريخ، وقد لا تتسع لها كتب التاريخ أصلًا، فالرجل، الذي أسّس لمدرسة خاصّة في الخضوع للإملاءات الأميركية من دون نقاش، وهو أمر ليس بهيّنٍ، تمامًا كما "مش هينة تكون قوّات"، كان قد بدأ مسار خطّ إنتاج العجائب هذا منذ ما قبل نعومة أظافر حكومته، التي استحالت مخالب تنهش وجه البلد، وشرف البلد. لقد تمرّس نوّاف سلام إذًا في كلّ ما يفعل الآن منذ أن عُيّن رئيسًا لمحكمة العدل الدولية في لاهاي حتّى صار رئيس حكومة برتبة مهرج، حيث قام مع نائبته القاضية الأوغندية جوليا سيبوتيندي المعروفة بانحيازها لـ"إسرائيل" في دعوى جنوب إفريقيا، بتسطير إنجازات في حقّ فلسطين عبر التغطية على الارتكابات "الإسرائيلية"، وللمصادفة المحض، كان قد تزامن تعيينه في هذا المنصب في شباط/فبراير 2024 مباشرة مع أول جلسة استماع في قضية جنوب إفريقيا ضدّ "إسرائيل" بتهمة الإبادة الجماعية في كانون الثاني (يناير) 2024. لذلك، حين يتحدّث سلام عن خدماته التي قدّمها لفلسطين، ينبغي تذكّرها بالكامل، ولا سيّما بقياس المؤهلات التي يجب على المرء أن يتمتّع بها كي ترتضي أميركا تعيينه في منصب كهذا.
بالعودة إلى الإنجازات الداخلية، هل تظنّون مثلًا أنّ "دنغ، دنغ، دنغ" التي افتتح بها حديثه الشيّق حول موضوع سلاح المقاومة هي مجرّد تهريجة لم تنجح في إضحاك أحد، ودلّت على استهتار فظيع في مسألة تعنى بالدرجة الأولى دم الناس وكرامتهم؟ أبدًا. هي إنجاز يُحسب له، فلولاها، لمّا تنبّه أحد لوجوده، ولصار حضوره مثل قرار حكومته الصادر يوم الثلاثاء الماضي: "كأنّه غير موجود". حسنًا، لن نقول فيه ما قاله الصحافي والمحلّل السياسي الفرنسي تييري ميسان "يتصرّف وكأنّه أطرش"، فالاحترام واجب في شرعتنا الأخلاقية، ولكن، ما بدر منه من قلة احترام تجاه مسألة بحجم نقاش سلاح المقاومة كان حركة ضرورية أراد من خلالها تنبيه الحاضرين إلى وجوده، كي لا يظنّه أحد منهم أبكمَ أو مجرّد آلة تسجيل تنقل ما قاله الأميركي أو السعودي بشكل آلي.
مهلًا، هذا ليس الإنجاز الوحيد لمغترب عاد من رفاهية أوروبا ودلال أميركا كي يحمل همّ لبنان، وينقذه من نفسه ويقوده بلطف وسلاسة إلى الخراب والخضوع. نذكّر على سبيل المثال لا الحصر ببعض ما فعل نواف، إذ لا تتسع مساحة مقال تكريميّ لذكرها كلّها:
في بداية عهده السحري، قام سلام بمنع هبوط الطائرات الإيرانية في مطار بيروت؛ هكذا وبدون مقدّمات، استشعر قلبه المرهف خطرًا ما قد يأتي على متن طائرات مدنية تنقل زوارًا لبنانيين وضيوفًا إيرانيين إلى بيروت. في الوقت نفسه، لم يمتعض سلام من استباحة العدوّ بالطيران الحربي والمسيّر سماء لبنان من الشمال إلى الجنوب. وهنا، لا يُسأل سلام عن السبب، فقلبه المرهف دليله.. و"القلب وما يريد!". قلبه هذا لا يستلطف الإيراني، هل نجبره؟ بالطبع لا. ولأن البلد ملك موروث له، فقد رفض أيّ مساعدة أو هبة أو معونة من الجمهورية الإسلامية في إيران.. فنوّاف يتميّز بعزّة نفس تمنعه من قبول المساعدة من طرف لا يهتف له قلبه. حسنًا، تبدو عبارة "عزّة نفسه" فضفاضة قليلًا. لا بأس.
هل توقّفت إنجازاته الأسطورية ها هنا؟ لا. تابع تسطيرها بشكل يشبه الخيال، وبدون جهد أو منّة، تمامًا كانسيابه في الرقص في افتتاحيات الحفلات في بيروت وبعلبك. الرجل يحبّ الرّقص. ما العيب في ذلك! وهل يظنّن أحد أنّ الاعتداءات "الإسرائيلية"المتواصلة على لبنان ستنجح في منعه عن مزاولة هواية يحبّها! هل يظنّن أحد أن رئيس حكومة بلد يُغتال فيه بشكل يوميّ مواطنون من خيرة رجاله، سيخجل ويتفرّغ لمنع استمرار العدوان؟! بالله عليكم، ما أظلمكم، فسلام يواجه العدوان بالرقص، ويقول للعدوّ سأرقص على وقع القذائف! يا لرومنسية المشهد!
لا لم تنته الإنجازات بعد، فملفّ إعادة إعمار ما دمّرته الحرب شكّل علامة فارقة في المسار النوافيّ، فالرجل كان يتأنّى في اختيار مواد إعادة الإعمار ولا يريد إلا أفضلها، ولكن، حدث أن استقبله جمهور نادي النجمة لكرة القدم بعبارة "صهيوني صهيوني نواف سلام صهيوني!" فكسرت خاطره، وحزن حزنًا شديدًا إلى درجة أنّه حين زاره وفد من نوّاب المقاومة لمتابعة تطوّرات الملف ذي الأولوية الحيوية، اكتفى بالشكوى والتعبير عن الأسى بسبب الهتافات التي سمعها.. وللأمانة، معه حق. فالرجل جُرحت مشاعره، وتحتاج إلى ترميم وربّما يسوء حالها فيُضطر إلى هدمها وإعادة بنائها. كيف يمكن مناقشته في أمر ثانوي كإعادة الإعمار ومشاعره منكسرة! أيّهما أولى!؟
المهم، أبلغ سلام زوّاره أن لا إعادة إعمار، ثمّ مضى إلى إنجاز سياديّ آخر، أذهل المجموعة الشمسية برمّتها: صرّح أنّ "النقاط الخمس التي تحتلها "إسرائيل" لا قيمة أمنية عسكرية أو إستراتيجية لها. لأننا اليوم في عصر التكنولوجيا والأقمار الاصطناعية وطيران المراقبة والحربي، فضلًا، مع الأسف، عن وجود شبكات الجواسيس على الأرض". عدّاه العيب إذًا. لماذا نفتعل إشكالًا من أجل نقاط محتلّة، فهي غير مهمّة أصلًا! يا للسيادة المبهرة! يا للكرامة الوطنية التي تجعل دموع المرء تنهمر تأثّرًا!
وهكذا، من إنجاز سياديّ إلى آخر، تلقّى سلام أوامر ماكرون بعدم السماح بأي استقبال رسمي أو شعبي أو ضحة إعلامية لمسألة الإفراج عن المحرّر جورج عبد الله. وأكثر من ذلك، تعهّد بالتنفيذ وبالمتابعة لعدم منح مساحة للقضية، ولولا تعهّده ذاك، كانت السلطات الفرنسية ستقوم بإرسال قاض فرنسي إلى لبنان للتأكد من أن إجراءات تجاهل الدولة لتحرير جورج عبد الله تسير كما رغبت فرنسا، بما في ذلك منعه من الإدلاء بأي تصريح سياسي أو مهاجمة فرنسا!. على صعيد آخر، وعلى سبيل السيادة ليس إلّا، وجه سلام نصيحة أخويّة محبّة إلى المقاومة في لبنان - ما أرقّ قلبه يا الله - فطلب إليها تسليم سلاحها بالكامل كي لا تقوم "إسرائيل" بقصفه. أجل. نسي في تلك اللحظات، ومعذور فانشغالات المهرجانات والزيارات الأميركية تضغط على ذاكرته، أنّ من واجباته هو كرئيس حكومة أن يفعل ما بوسعه لمنع القصف! طيّب، نسي هذا التفصيل الهامشي! هل انتهى العالم؟ لا. قد ينتهي العالم ولا ينتهي سرد الإنجازات المشهودة التي ستتناقلها الأجيال ممهورة باسم نواف سلام، ونأمل أن تكون الأجيال مهذبة فلا تنعته بأوصاف جارحة، فهو كما قلنا سابقًا، ينكسر قلبه المرهف الهشّ من كلّ حرف يعارض ما تريد له أميركا أن يكون.
أمّا بعد، كل ما سبق ذكره في كفّة، والإنجاز النوعي بالخضوع التام للأميركي، من دون نقاش، من دون سؤال، من دون اعتراض وبذوبان تام، في كفّة أخرى: تتغيّر ملامحه حتّى في حضرة الأميركي، وإن ظنّ البعض أن استجاباته السريعة لأوامر مورغان أورتاغوس كانت بسبب كونها امرأة، وكونه الرجل المتحضّر الذي يحفظ جيّدًا كيفية التعامل برقيّ مع الحضور الأنثوي، فبعض الظنّ إثم! فالاستسلام المشهود الذي كان فاضحًا في حضرة أورتاغوس، هو نفسه في حضرة برّاك! ما الأمر! إنّها الحضرة الأميركية يا إخوان، مهما اختلفت الوجوه والأسماء، لها سحرها وتأثيرها على نوّاف.. وكما قلنا سابقًا، القلب وما يريد!
تطول السطور ولا تنتهي المآثر، وإن ظننت عزيزي القارىء أن موضوع قرار حكومة نواف، الذي نتعامل معه وكأنّه غير موجود، وموضوع إقرار الورقة الأميركية، قد يردان في لائحة الإنجازات هذه، فمن المؤسف إبلاغك أنّها غير واردة. فلا ورود لما لا وجود له، سوى في أوهام الأميركي و"الإسرائيلي" من قرارات وإقرارات لا تساوي قيمتها قيمة الحبر الذي كُتبت به.