خاص العهد

في موقف نابع من وعي فكري والتزام وطني راسخ، أعلنت الدكتورة فيولا مخزوم، أستاذة تكنولوجيا التربية والتعليم، انسحابها من المؤتمر العلمي الدولي الذي ينعقد بتاريخ 21 آب/أغسطس 2025، بعد تبيّن وجود باحث "إسرائيلي" ضمن المشاركين.
وفي تصريح لموقع العهد الإخباري، أكدت مخزوم أن موقفها لا يأتي في سياق ردّة فعل سطحية، بل هو نتاج لقناعة فكرية وتجربة شخصية ومعايشة مباشرة للاحتلال وآثاره المدمّرة على الأرض والإنسان.
لا تطبيع مع الاحتلال ولو في الفضاء الأكاديمي
وقالت مخزوم: "أرى أن هذه المحاولات ليست بريئة، بل هي محاولة لتبييض صورة الاحتلال وإضفاء شرعية زائفة على كيان قائم على الاغتصاب والاستيطان. الفضاء الأكاديمي والثقافي يجب أن يبقى طاهرًا من كل أشكال التطبيع، لأنه فضاء لبناء المعرفة والحرية، لا لتلميع الجرائم وتزييف الحقائق".
وأوضحت أنها بعدما تلقّت قبولًا رسميًا لورقتها البحثية، تبيّن لاحقًا وجود اسم باحث "إسرائيلي" على جدول أعمال المؤتمر الذي تشارك فيه 31 دولة، ما دفعها إلى اتخاذ القرار المناسب: "بالتأكيد، الخطوة الأولى كانت الاستفسار والتوضيح، لكن حين تأكدت من مشاركة باحث "إسرائيلي"، لم أجد أي مبرر للاستمرار. الانسحاب كان الخيار الأخلاقي والوطني الطبيعي، لأن القبول يعني القبول بالتطبيع الضمني".
وشدّدت مخزوم على أن "العلم لا ينفصل عن القيم، والانفتاح لا يعني التفريط بالمبادئ. الحوار الأكاديمي الحقيقي لا يمكن أن يُبنى على حساب دماء الأبرياء أو على تبرير الاحتلال. نحن نؤمن بالتعاون مع كل شعوب العالم، لكن ليس مع من يمارس القتل والتهجير والعدوان".
وتابعت: "الموقف الأكاديمي هو امتداد طبيعي للموقف الوطني، فلا يمكن فصل الجامعة عن المجتمع أو اعتبار الباحث مجرّد ناقل للمعرفة بمعزل عن قضايا شعبه. الباحث الحقيقي هو حامل رسالة وقيم، وليس مجرد مؤدٍّ لدور تقني".
موقف ينبع من تجربة مع الاحتلال
وكشفت مخزوم أن هذا الموقف ليس فقط موقفًا أكاديميًا، بل هو تجسيد لتجربة شخصية عايشتها منذ الطفولة، قائلة: "أنا ابنة الجنوب اللبناني الذي عرف معنى الاحتلال بكل تفاصيله: العدوان، التهجير، الاجتياحات، والاعتداءات المتكررة. هذه الأرض التي قدّمت الشهداء وواجهت التدمير، علّمت أبناءها أن الكرامة لا تُجزّأ، وأن التفريط بالمبادئ في أي ساحة، بما فيها الساحة الأكاديمية، يعني التفريط بالهوية نفسها".
وأكدت: "أنا لا أتهاون ولا أساوم في هذه المسألة. موقفي الأكاديمي هو انعكاس مباشر لانتمائي الوطني والجغرافي، ولتجربة جماعية لشعب لم ولن يقبل التطبيع مع من اعتدى على أرضه وذاكرته. من يفرّط بالكرامة الوطنية في المحافل العلمية، سيفرّط أيضًا برسالته الأكاديمية، لأن الاثنين وجهان لهوية واحدة لا تنفصل".
العلم بلا أخلاق يتحول إلى أداة تدمير
ورأت أن التحدي الحقيقي اليوم يكمن في وعي الأكاديمي والمثقف بدوره، مشيرة إلى أن "العلم المرتبط بالقيم يتحول إلى قوة بناء وتحرير، أما العلم بلا أخلاق فيتحول إلى أداة تدمير".
وأضافت: "الأكاديمي الحقيقي لا يفصل بين قلمه وضميره، ولا بين إنتاجه ومبادئه. القيمة الحقيقية لأي إنجاز أكاديمي تكمن في مدى انسجامه مع مبادئ الحرية والعدالة والكرامة الإنسانية".
الانسحاب موقف.. وليس نهاية النقاش
ولفتت مخزوم إلى أنه تم تسجيل اعتذاري بكل احترام، لكن ذلك لا يغيّر من جوهر المشكلة، فـ "قبول مشاركة كيان محتل يضعف صدقية أي مؤتمر علمي مهما كانت عناوينه".
وأوضحت أن الموقف الذي اتخذته لقي صدى إيجابيًا واسعًا، حيث تلقت عشرات الرسائل من باحثين وأكاديميين عبّروا عن دعمهم واعتبروا انسحابها "دفاعًا عن الثوابت وحماية للفضاء الأكاديمي العربي من الاختراق".
وفي رسالة موجهة إلى الباحثين الشباب، دعتهم إلى عدم الفصل بين هويتهم الأكاديمية وانتمائهم الوطني، وقالت: "رسالتي واضحة وهي أنّ العلم الحقيقي لا يُبنى على المساومة أو التنازل عن المبادئ. على الباحثين الشباب أن يدركوا أن الهوية ليست عبئًا أو عائقًا أمام البحث العلمي، بل هي مصدر قوة وعمق يمنحهم رؤية واضحة وقيمًا ثابتة يستندون إليها في كل أعمالهم".
وأكدت أن "التمسك بالكرامة هو الشرط الأساسي لبناء علم يحترمه العالم، علم يرتبط بالقيم والأخلاق قبل أن يرتبط بالمؤتمرات والمقالات العلمية. البحث العلمي بلا مبادئ يصبح مجرد أرقام ومؤشرات، أما البحث الملتزم بالهوية والكرامة فهو الذي يترك أثرًا حقيقيًا، ليس فقط في المجتمع الأكاديمي، بل في وعي الشعوب وثقافتها ومصيرها".
المقاومة الثقافية.. واجب أكاديمي
وختمت الدكتورة مخزوم تصريحها بالتأكيد على أن هذا الموقف ليس حدثًا فرديًا أو عابرًا، بل هو جزء من مشروع مقاومة ثقافية ممتدة تهدف إلى حماية الوعي الجمعي من الاختراق الناعم الذي يسعى الاحتلال لفرضه عبر الثقافة والبحث العلمي.
واقترحت مجموعة خطوات عملية لتعزيز المقاطعة الأكاديمية، منها:
- تأسيس شبكات أكاديمية عربية ودولية تضع معايير واضحة للتعاون تستثني أي شكل من أشكال التطبيع.
- إطلاق مبادرات بحثية مشتركة بين جامعات ومراكز دراسات عربية وأجنبية حرة.
- تعزيز ثقافة المقاطعة الأكاديمية عبر الندوات، والمنشورات، والمؤتمرات.
- إطلاق خطاب أخلاقي عالمي يربط بين الحرية الأكاديمية وحقوق الشعوب.
وأكدت في ختام حديثها لموقعنا أن"المثقف والباحث ليسا خارج المعركة، بل هما جزء منها، في الدفاع عن الحقيقة، وحماية الهوية، والتصدي لمحاولات شرعنة الاحتلال عبر بوابة العلم والثقافة".