نقاط على الحروف

لم يبقَ عِرقٌ في الفريق الذي يقود الحملة ضدّ المقاومة في لبنان إلا "انهزَّ" بعد تصريح نائب رئيس الحكومة طارق متري الذي قال فيه بوضوح إن لبنان أصبح في حِلّ من الورقة الأميركية بعد فشل صاحبها في الحصول على التزام "إسرائيلي" بما تفرضه الورقة من جانب الاحتلال. شنّ الفريق المتحالف مع رئيس الحكومة نواف سلام حملة ضدّ متري ولم يحتمل تمايزه عنهم بالموقف إلى حد اعتباره "وديعة حزب الله في الحكومة"! بهدف التشكيك في دوافع أي جهة يمكن أن تفكر بمصلحة لبنان بعيدًا عن الضغوط الأميركية، فكيف سيحتمل إذًا رأي الفريق الآخر على الضفّة الأخرى؟!
يصنّف بعض أدوات المشروع الأميركي الناس بين أبيض وأسود، ولا يقبلون أي رأي يقع بين هذين اللونين. والمطلوب في رأيهم الإمضاء والتصديق على أهداف الورقة الأميركية وشروطها من دون أي نقاش أو حساب لمصالح لبنان أو إعارة بعض الانتباه إلى وفاق أبنائه. وفي حين يفترض المنطق أن مصالح لبنان قد تفترق عن مصالح الولايات المتحدة الأميركية، يدفن الفريق الموالي للسياسة الأميركية رأسه في الرمال، محاولًا إقناع اللبنانيين بأن ما تقوله أميركا هو عين مصلحة لبنان، وأن لا مجال لأخذ مسافة منه أو حتّى إدراج ملاحظات عليه.
كما يندرج معظم الجدل الدائر اليوم بشأن الورقة الأميركية ضمن محاولة التدليس و"التشبيح" على وعي الشعب اللبناني من خلال زرع فكرة أن الورقة الأميركية أصبحت ورقة لبنانية بعدما عُرضت على مجلس الوزراء ولم يعد من الممكن الخروج منها، كأنها نص مقدس أو دستور ثابت لا تمحوه الأيام. وهذا ما ألقمه السيناتور الأميركي الصهيوني ليندسي غراهام لممثلي الفريق الأميركي في لبنان عندما قال من أمام قصر بعبدا إن "قرار نزع سلاح حزب الله هو قراركم وليس قرار إسرائيل". بمعنى آخر، إن الأميركي رمى ورقته المسمومة في المستنقع اللبناني وحوّلها إلى أزمة داخلية، بينما منح حليفَه "الإسرائيلي" العذر وصكّ البراءة مسبقًا للتنصل منها وعدم التجاوب معها.
من الواضح أن السياسة الأميركية غير معنية إلا ببند وحيد، وهو نزع سلاح المقاومة بوصفه ورقة القوّة الأساسية في يد لبنان بمواجهة الاحتلال "الإسرائيلي". ومن يمشِ وراء المشروع الأميركي على "العمياني" وفي ظنه أنه سيصل معه إلى "الدولة"، يدرك قبل غيره أن الأميركي سيتركه في الربع الأول من الطريق. فالأجندة الأميركية تقوم على تحقيق مصالح أميركية - "إسرائيلية" بالدرجة الأولى، وليس للبنان باعتباره "الحلقة الأضعف" إلا اللهاث وراء الأميركي و"التباكي لاستدرار الحنان"، على ما قال وزير الخارجية اللبناني يومًا. لكن الولايات المتحدة بدأت تفصح عن بعض مشاريعها التي تُفقد لبنان سيادته على أرضه وتؤدي إلى سلبيات طويلة الأمد، ومن ذلك إقامة "منطقة صناعية" في المنطقة الحدودية الجنوبية كغطاء لجعلها منطقة ليس فقط منزوعة السلاح والسيادة اللبنانية، بل منزوعة السكان أيضًا.
إن إعادة مراجعة الموقف اللبناني من الورقة الأميركية تتطلب الجرأة العالية والحسّ الوطني الخالص. وفي هذه الحالة، لا يصحّ التخندق الأعمى وراء هذه الورقة والدفاع عنها، في وقت يتضح أن الأميركي كتبها ثمّ طلب من الجانب اللبناني أن ينفذ الاشتراطات المفروضة عليه من دون أي التزام مقابل؛ هكذا لأنه لا يريد أبدًا الضغط على الجانب "الإسرائيلي" لتنفيذ ما ورد فيها.
وتبدو محاولة تكوين اصطفافات حول محور الورقة الأميركية عملية تحضير للساحة اللبنانية من أجل خوض معركة سياسية تؤزّم الموقف وحسب، وتتيح للعدو مواصلة احتلاله وعدوانه بصورة مفتوحة، ذلك أن فريقًا لبنانيًا لا يهمّه من شعار "بناء الدولة" إلا تصفية الحساب مع قوى فاعلة أثبتت أنها عصية على محاولة التدجين والتطويع لمصلحة المشروع الأميركي.
ومن خلال تصريح نائب رئيس الحكومة، وما أعقبه من تعليق الرئيس نواف سلام عليه بأن الحكومة متمسكة بـ "أهداف الورقة الأميركية" ومحاولته التمييز بين هذه "الأهداف" والورقة نفسها التي "لم يلتزم لبنان بها"، يتأكد مرة أخرى على لسان المعنيين أن الورقة ليست لبنانية مهما قيل عن إدخال ملاحظات عليها. كما يتبين أن من يراهن على الأميركي لم يأخذ استراحة تأمّل بعد، بالرغم من الانعطافة الأميركية الحادة عن مطالب لبنان في ما يجري على أرض الجنوب وعلى حساب أمن شعبه.
وبالتالي، فإن ما صدر عن نائب رئيس الحكومة ربما يفيد في أن يُحوَّل "لحظة تخلٍّ" تستلزم مراجعة لموقف الحكومة تأكيدًا على أولوية الوحدة الوطنية في هذه الظروف الصعبة. أما "العناد" والبقاء عند الورقة الأميركية التي تخلّى عنها صاحبها فيعكس قرارًا بإنتاج أزمة مفتوحة ستترك من دون شك تداعيات على واقع البلد. وقد يتأخر المعنيون بالقرار الرسمي في إدراك أن أي إنجاز يُبنى على توهم الاعتقاد بأن المقاومة في أضعف حالاتها سيضيف مزيدًا من التشرذم والانقسام وقد يُفشل فرصة قيام الدولة القادرة.