نقاط على الحروف

حضر العرب وإخوان العرب (الأتراك) ومعظم العالم في قمة شرم الشيخ ولم يحضر أهل القضية. وأهل القضية هنا طرفا النقيض: الجلاد (بنيامين نتنياهو) والضحية (الشعب الفلسطيني) الممثّلة زورًا برئيس سلطة منتهي الصلاحية السياسية والتنفيذية؛ طرفان لم يلتقيا على اتفاق لا في الميدان ولا على طاولة المفاوضات إلا من لقاءات فرضتها الضرورة القاهرة التي أفضت إلى اتفاق وقف إطلاق النار في قطاع غزّة الذي يصرّ الرئيس الأميركي دونالد ترامب على تسميته بـ "إنهاء الحرب". ولئن كان غياب المقاومة الفلسطينية عن القمة مفهومًا ومتوقعًا فإن غياب نتنياهو بما يمثّله من مشروع صهيوأميركي جامح بذريعة الأعياد التلمودية هو خطوة يجدر التوقف عندها مليًا في قراءة خلفياتها وأهدافها وأوّلها عدم توقيعه على أي تعهّد يلزمه بتنفيذ أي من بنود الاتفاق أو في الحد الأدنى التنصّل من التنفيذ، وله في ذلك مسوّغات يسوقها كيفما يشاء طالما أن الضامن الأميركي شريك مباشر له في مشروع الهيمنة على المنطقة.
في قراءة عامة لـ"اتفاقية ترامب للسلام" أو ما سمّي "إعلان ترامب" الذي تم توقيعه في قمة شرم الشيخ تكرّر عنوان عريض لازمَ المشاريع الأميركية منذ خمسينيات القرن الماضي تحت عنوان "السلام الشامل والدائم في الشرق الأوسط"، وأضاف إليه الرجل مصطلحات "الأمن والاستقرار والازدهار المشترك" الخاصة به و"لجميع شعوب المنطقة، بمن فيهم الفلسطينيون والإسرائيليون". على أن العامل البنيوي لتحقيق التقدّم في تنفيذ الاتفاقية مرهون بعدة خطوات أوّلها "التعاون والحوار المُستدام.. وتعزيز الروابط بين الدول والشعوب"، وهي أدبيات تعمّد ترامب ربطها بالخلفيات الدينية (المسيحية والإسلام واليهودية) لتسويق مشروع "السلام الإبراهيمي" الذي يعتقد مروّجو التسوية والتطبيع بأنه كفيل بتخدير الشعوب وإقناعها بعدم تعارضه مع معتقداتهم، لا بل يسهّل على الدعاة تعميم خطاب "التعايش السلمي" من على منابرهم الدينية.
برز في "إعلان ترامب" نوعان من البنود، الأول ما اكتسب صفة الحسم ولا سيّما لجهة "معارضة جميع أشكال التطرّف والتشدّد.. حيث تُهدّد الأيديولوجيات المتطرّفة نسيج الحياة المدنية، ويتقاطع هذا الاتّجاه مع مقولات "التسامح وقبول الآخر ونبذ العنف" بما يقود إلى اعتناق قيم جديدة لا دينية تحت عناوين "حرية الرأي والحوار واللاصدام"، وهي قيم اجتماعية وأخلاقية ممدوحة ومقبولة من الشرائح الإنسانية عمومًا، ولكنها ستبقى محميّة بالقوّة التي تمتلكها أميركا و"إسرائيل" فقط، على ما جاء في خطاب ترامب في "الكنيست" الصهيوني، حيث كان صريحًا في تهديد العالم بأسره بامتلاكه الأسلحة المتطوّرة التي تضمن تنفيذ السلام بالقوّة والقادرة على هزيمة أي طرف يختار طريق الحرب، وكلّ ذلك من أجل "بناء منطقة يستطيع فيها الجميع، بغضّ النظر عن العرق أو العقيدة أو الأصل العرقي، تحقيق أهدافهم في سلام وأمن وازدهار اقتصادي"، وهنا بيت القصيد الترامبي، المال ثمّ المال ثمّ المال.
أما النوع الثاني من البنود فتضمّن صفة التعهّد والنوايا، بهدف "القضاء على الظروف التي تُغذي التطرّف، وتعزيز التعليم وتكافؤ الفرص والاحترام المتبادل كأساس للسلام الدائم.. وحل النزاعات المستقبلية من خلال الحوار الدبلوماسي والتفاوض، بدلًا من القوّة أو الصراعات المطوّلة". وهذه عناوين عامّة ومطّاطة غير حاسمة في مضامينها، ولو عرضنا هذه التعهدات والنوايا على التجربة التي خاضها العالم في مرحلة حكم ترامب الأولى وما حملته مرحلة عهده الثاني حتّى الآن لرأينا أن الرجل ينحو إلى خيار الحروب أكثر منها إلى خيار السلام، ويعتمد قرارات الحسم أكثر من اعتماده على التفاوض والحوار في معالجة القضايا العالقة، فمحرقة الإبادة الصهيونية التي ارتكبها نتنياهو بحق الشعب الفلسطيني على مدى عامين لم تكن لتحصل لولا الدعم الأميركي السياسي والعسكري اللامحدود، وكان هذا الأمر محل تفاخر في خطاب الأخير أمام "الكنيست" مكرّرًا وصف ترامب بأنه "الحليف الأعظم لـ"إسرائيل" في تاريخ أميركا".
وعلى الرغم ممّا تحمله قمة "شرم الشيخ" من "تخريجة" نصر لنتنياهو وإعادته إلى سياق المقبولية في العالم وفق ما أعلن ترامب، وتأكيد ذلك بالحضور العارم و"الرفيع" لرؤساء الدول الفاعلة في القمة، إلا أن نتنياهو تغيّب عن الحضور بذريعة "عيد العرش اليهودي" ولم يوقّع على الاتفاقية، ولئن فسّر البعض هذا التغيّب على أنه يتيح لترامب التفرّد بإخضاع العرب ومعهم تركيا في ما يشبه صك الاستسلام، إلا أن آخرين رأوا في ذلك خطوة ماكرة تتيح لنتنياهو مستقبلًا التنصّل من أي التزام طالما أنه لم يحضر ولم يوقّع ولن يكون لأحد الحق في أن يطالبه بأي شيء خصوصًا أن "إعلان ترامب" جاء على شاكلة "اتفاقية حسن نوايا"، ولم تتضمن أي قرارات تنفيذية أو جدولة زمنية مفروضة على "إسرائيل".
في المقابل يبدو العرب والفلسطينيون، الذين مثّلهم الرئيس المصري عبد الفتاح السياسي وأمير قطر تميم بن حمد آل ثاني ومعهما الشريك الإقليمي لترامب الرئيس التريكي رجب طيب أردوغان، ملزمين بالانصياع لبرنامج عمل أعدّته واشنطن للمرحلة المقبلة، ولا يمكن لهم فيها الاعتراض حيث شكّلت الاتفاقية فرمانًا عربيًا شاملًا - بدلًا من الاتفاقيات المنفردة - يقرّ بـ"إسرائيل" دولةً تمتلك الحق بالقتل والتشريد والتوسّع حتّى لو جاء ذلك على حساب العرب والفلسطينيين أنفسهم، وإلا كيف نفسّر غياب أي مطالبة عربية بمحاكمة نتنياهو على جرائمه والتراجع عن مشاريعه التوسعية تحت مظلة "إسرائيل الكبرى"!؟ وكيف نفسّر توقيع العرب على إعدام ما تبقى من الفلسطينيين في قطاع غزّة فيما يترقب الفلسطينيون في الضفّة الغربية تهديدًا مماثلًا يؤدي بهم للتشرّد والهجرة إلى الأردن، الوطن البديل!؟ ولماذا لم يطالب العرب والموقّعون على الاتفاقية بإعلان نتنياهو التزامه بوقف حروبه التدميرية في المنطقة وكبح جماحه التوسّعي!؟
ربطًا بما سبق كان لافتًا عدم دعوة لبنان وسورية إلى حضور القمّة -سعى ترامب إلى التعويض عن ذلك بتوجيه التحيّة للرئيس اللبناني العماد جوزف عون وامتداح ما يقوم به أحمد الشرع في سورية- وقد فسرّ مراقبون هذا الأمر بأن الطبخة الأميركية المتعلّقة بهذين البلدين لم تنضج بعد، وعليه فلا يشكّلان راهنًا قضية تحتاج إلى حسم لدى واشنطن بما يستلزم حضورهما في القمّة، كما أن ترامب ونتنياهو لم يصلا بعد إلى توفير المقوّمات السياسية والظروف الميدانية لضمّهما إلى الاتفاقية الشاملة للمنطقة أو لأنهما لا يريان في هذين البلدين مستقبلًا يؤهلهما ليكونا ملفين منفصلين في المعادلة الكبرى. وعلى هذا يحذّر المراقبون من إمكان حصول تطوّرات متسارعة في المرحلة المقبلة في كلّ من لبنان وسورية تمهّد لخلق واقع جديد يؤدي إلى إلحاق لبنان بمشروع غزّة فيما ترسو سورية على معادلة التقسيم الممنهج لتتحوّل إلى ما يشبه "البهو المتفجّر" الذي يقود إلى صالات ملتهية يشعلها نتنياهو ليطبق ترامب هيمنته على المنطقة.