مقالات

في آب/أغسطس 2025، أطلق الرئيس الجنوب أفريقي سيريل رامافوزا مبادرة غير مسبوقة من خلال إنشاء فريق خبراء ضمن مجموعة العشرين لدراسة مسألة اللامساواة في الثروة العالمية وتداعياتها على النموّ والفقر والتعددية الدولية. وفي تعبير عن الأهمية التي توليها جنوب أفريقيا لهذا الأمر فلقد تم تعيين جوزف ستيغلتيز الحائز على جائزة نوبل في الاقتصاد رئيسًا لهذا الفريق الذي يفترض أن يقدم نتائج أعماله في قمة مجموعة العشرين المقررة في جوهانسبورغ في تشرين الثاني/نوفمبر 2025.
وقد أوضح رامافوزا أن المبادرة تشكّل خطوة عملية لمواجهة تفاقم الفوارق الاجتماعية والاقتصادية في بلدان عالم الجنوب مستشهدًا بتجربة توزيع اللقاحات غير العادل خلال جائحة كوفيد - 19 بوصفها نموذجًا صارخًا للظلم العالمي. وأكد أن صعود الأسعار، وأزمات الغذاء والطاقة، وتصاعد الديون السيادية، تشكّل عوامل تدفع نحو اتساع الفجوة بين الدول الغنية وبقية سكان العالم. أما ستيغليتز فقد شدّد على أن اللامساواة ليست قدرًا محتومًا بالنسبة لدول عالم الجنوب بل هي نتيجة الإرث الاستعماري والهيمنة الغربية وهي عوامل يمكن تجاوزها إذا توفر القرار والإرادة.
بهذا تكون جنوب أفريقيا قد وضعت مسألة العدالة الاقتصادية في صلب أجندتها بصفتها الرئيسة الدورية لمجموعة العشرين، ساعية إلى إعادة توجيه البوصلة نحو قضايا تمس مباشرة الدول النامية مثل معالجة المديونية وتعزيز الأمن الغذائي وتطوير الابتكار المستدام.
وتكمن أهمية مبادرة جنوب أفريقيا في أنها تتزامن مع صدور بيانات صادمة تشير إلى أن نصف سكان العالم الذين يعيشون في عالم الجنوب لا ينالون إلا 2 بالمئة من الثروة العالمية، فيما يستحوذ 10 بالمئة من سكان العالم الذين يعيشون في المجتمعات الغنية على 75 بالمئة من الثروة العالمية، علمًا أن النخب الثرية والتي لا يتجاوز عددها بضع مئات من الأثرياء راكموا ثروات يمكن لجزء منها أن يقضي على مشكلة الفقر في العالم.
من هنا فإن تركيز جنوب أفريقيا على مكافحة اللامساواة وعلى دفع التنمية لا يخدم فقط مصلحة محلية أو إقليمية، بل يضع دول عالم الجنوب في صدارة النقاشات الدولية، علمًا أن قيادتها لمجموعة العشرين تستند إلى مبادئ التضامن والمساواة والاستدامة، وهي مبادئ تسعى لردم الهوة بين الاقتصادات المتقدمة واقتصادات الدول النامية.
والجدير ذكره أن ما تقوم به جنوب أفريقيا ينسجم مع أهداف منظمة البريكس التي تأسست في العام 2009 وكانت جوهانسبورغ من الأعضاء المؤسسين لهذه المنظمة إلى جانب روسيا والصين والهند والبرازيل، لتتحول إلى إطار سياسي واقتصادي بديل للمنظومات التقليدية التي تهيمن عليها القوى الغربية. ومع التوسّع الأخير الذي شمل دولًا مثل أثيوبيا ومصر والسعودية، بات للبريكس ثقل سكاني واقتصادي متزايد، يعزز دورها كممثل لدول عالم الجنوب.
ولقد باتت بريكس تقدم فرصًا لدعم التنمية وخفض الاعتماد على الأنظمة المالية الغربية عبر مؤسسات مثل بنك التنمية الجديد الذي يقوم بتمويل مشاريع البنية التحتية والتنمية المستدامة. كذلك فإن بريكس باتت تشكّل منصة لتعزيز التعاون بين دول الجنوب في مجالات التكنولوجيا والطاقة والصحة والتعليم بعيدًا عن الشروط السياسية التي غالبًا ما ترافق المساعدات الغربية.
وبالنسبة لجنوب أفريقيا، يوفّر الانخراط في البريكس جملة من المزايا من ضمنها تعزيز مكانتها الإقليمية والدولية خصوصًا أنه يتيح لها التفاعل مع قوى اقتصادية كبرى، والحصول على دعم مالي وتقني في مجالات الصحة والطاقة والتعليم. إضافة إلى ذلك فإن البريكس تقدم الفرصة لجوهانسبورغ لمكافحة الفقر والبطالة عبر تدعيم التجارة بين جنوب أفريقيا وشركائها في البريكس، مما ساعد على خلق فرص عمل جديدة ونقل خبرات تقنية. إضافة إلى ذلك فإن البريكس مكنت جنوب أفريقيا من تعزيز دورها للدفاع عن المصالح الحيوية للقارة الأفريقية وتعزيز أجندة الاتحاد الأفريقي 2063 التي تركز على التكامل بين الدول الافريقية ودعم التصنيع فيها. كذلك فإن بريكس تقدم الفرصة لجنوب أفريقيا لتعزيز استقلاليتها المالية عن الدوائر الغربية خصوصًا أنه يتيح لها التنويع في الشراكات التجارية والمالية، والحد من الاعتماد على المؤسسات الغربية، والمطالبة بإجراء إصلاحات في صندوق النقد الدولي والبنك الدولي والأمم المتحدة. كذلك فإن البريكس تتيح للباحثين والمؤسسات التعليمية الاستفادة من برامج التعاون الأكاديمي وتمويل مشاريع بحثية مشتركة، بما في ذلك مشاريع فضائية وتقنية. والجدير ذكره أنه خلال القمة السابعة عشرة التي انعقدت في ريو دي جانيرو عام 2025، جدّد قادة البريكس التزامهم بالتعاون من أجل التنمية المستدامة، وبناء نظام عالمي أكثر شمولية وعدلًا، مع التركيز على التجارة والابتكار والمناخ والصحة العالمية وإصلاح المؤسسات الدولية.
ولقد استفادت جوهانسبورغ من رئاستها للدورة الحالية للبريكس للتركيز على قضايا تخفيف أعباء الديون، والعدالة في توزيع الموارد، والتحولات العادلة لاستخدام الطاقة.
لذا فإن قيادة جنوب أفريقيا لمجموعة العشرين في العام 2025 مثلت محطة محورية في مسار إعادة تشكيل الحوكمة العالمية عبر تسليطها الضوء على مسألة اللامساواة، وتطوير آليات تمويل جديدة، ودعم التعاون بين دول الجنوب.
وبالنسبة لدول عالم الجنوب فإن هذا المسار يقدم بديلًا حقيقيًا للنماذج التقليدية للتنمية، بديلًا يستند إلى التضامن، والابتكار المؤسسي، وتوسيع الشراكات البينية. ومع تواصل أعمال فريق الخبراء في مجموعة العشرين وتوسع مبادرات البريكس، تقترب رؤية نظام عالمي أكثر إنصافًا من التحقق، حيث تتمكّن الدول النامية من صياغة مستقبلها بإرادتها المستقلة.