مقالات

حكومة بكاملها، رئيسًا وأعضاء شهداء، على طريق القدس. أين قد يحصل هذا سوى في اليمن؟! منذ دخوله على خط إسناد المقاومة في قطاع غزّة، كان اليمن يعي أن مقابلَ الخطوة ثمن وعواقب، ورغم هذا ذهب في مسار لم يعرف إلا الوتيرة التصاعدية.
أمام مناشدة فصائل المقاومة الفلسطينية والإيغال الصهيوني في التوحش إلى محارق الإبادة، رأى اليمن نفسه أمام فرصة تاريخية لخوض المواجهة التي لطالما تطلع إليها، معيدًا إلى المسامع صدى كلمات الشهيد السيد حسين الحوثي: "نحن نريد أن نحارب أميركا وإسرائيل… نريد أن يكون لنا موقف ضدّهم".
منذ لحظة الصرخة، يوم ردَّدتها المجاميع خلف الشهيد السيد حسين الحوثي (عام 2002) في مرّان، حدد اليمنيون خياراتهم. على ضفة الله، ينصرون دينه بمواجهة أميركا و"إسرائيل"، ومنظومة الإفساد العالمية… هكذا كانوا يعبّرون عن تموضعهم الواضح في صراع مفتوح. والمواجهة التي انكفأت عنها المنطقة تقدمها اليمن، مساندًا فصائل المقاومة، كقوة مسلحة رسمية عربية وحيدة، في زمن الإبادة وتصفية القضية.
من رحم اللا شيء "ماديًا" خرج "أبو يمن"، والاسم الذي أُطلق على اليمنيين بالجُملة تحقيرًا، تكرِّره الشعوب تباهيًا ببطولات أصل العرب، وآخر قلاع شرفهم وكرامتهم. في العام 2002، ومن أكثر مناطق تهميشًا؛ صعدة، خرج يمن "أنصار الله" - وهو الاسم الذي تبلور بعد سنوات - لتعبّر التسمية عن هوية واضحة المعالم، متصلة بزمن الأنصار الذي احتضنوا الرسول (ص) ومن معه من مهاجري مكة، ولا غرابة في أن يسكن اليمانيون تاريخهم وأن يعيدوا إحياءه، وهم الشعب الوحيد الذي لا يزال يحتفل بذكرى دخوله الإسلام، وما ينفك يتباهى بكلام النبيّ محمد(ص) بحقه: "أتاكم أهل اليمن، هم أرق أفئدة وألين قلوبًا، الإيمان يمان والحكمة يمانية".
ست حروب خيضت ضدّ الجماعة، استشهد في الحرب الأولى سيدها المؤسس، ومع ذلك خرجت من كلّ حرب أقوى حتّى كرّست وجودها كطرف نافذ في صعدة، ثمّ كطرف ممسك بالقرار اليمني من صنعاء. وفي سجلها انتصاران ضدّ السعودية التي ذكر ولي عهدها محمد بن سلمان في مقابلة أجرتها معه مجلة "تايم" عام 2018 أنها تملك أكبر الجيوش حجمًا في المنطقة، والثاني إقليميًا من حيث التفوق التقني. وفي ما تمكّنت مجاميع أنصار الله من هزيمة السعودية التي دخلت مساندة لقوات علي عبد الله صالح في حرب صعدة السادسة عام 2009. غلبها اليمن مرة أخرى في العدوان الذي شنته المملكة عام 2015، حاشدة معها دعمًا وإسنادًا إقليميًا ودوليًا.
وبعد السابع من أكتوبر، أخرج الإسناد اليمن إلى ضوء التوازنات الإقليمية، متحكمًا بمضيق باب المندب، ومتسيّدًا على البحر الأحمر، وقد وصلت يداه إلى المياه الدافئة، هذا في عالم مَن يسيطر فيه على الممرات البحرية يحكم العالم. النقيض تمامًا لصورة العجز العربي، كان اليمن. فارضًا المعادلات دون أن تُفرض عليه. يطارد مصالح الاحتلال. ويقارع الأميركيين وجهًا لوجه، لينهي الاشتباك بشروطه. وبعد أن وقف دونالد ترامب يخاطب اليمنيين: سنبيدكم تمامًا، ذهب هو نفسه يطرق أبواب مسقط للتوسط مع صنعاء؛ مستجديًا وقف استهدافها السفن الأميركية، مقابل وقف اعتداءاته. وخرجت "شبكة سي إن إن" تعترف: "نحن نستنزف كلّ طاقتنا - الذخائر والوقود ووقت الانتشار، وبدلًا من أن يستسلم الحوثيون، هدّدوا بتوسيع نطاق أهدافهم. التاريخ يُظهر أن الحوثيين يتمتعون بقدرة تحمل عالية جدًا للألم، وإخضاعهم أمرٌ في غاية الصعوبة".
كان اليمنيون يدكُّون العمق المحتل ويُغرقون سفنه بيد، ويهدمون باليد الأخرى المفاهيم الصنمية للخنوع العربي، والتي نُظِّر لها لعقود تحت خانة الواقعية السياسية. لعقود ظل العجز مستحكمًا بالعقل العربي، يبرر صور الاعتراف بالاحتلال كأمر واقع، وينظُرُ إلى المواجهة مع "إسرائيل" كقرار انتحار، بما يملكه العدوّ من إمكانيات ويحظى به من دعم أميركي. هذا، مع أن التاريخ لم يسجل أنَّ مقاومة واجهت استعمارًا أو احتلالًا بموازين متكافئة؛ لأن التكافؤ يفرض الردع إن لم يأت بالحسم. ولأن الانكفاء عن المواجهة استسلام كامل، وخوضها استنزاف وتكاليفه مهما كبرت فهي تستحق، وتجربة المقاومة اللبنانية بما أثمرته من تحرير عام 2000 حاضرة في الوعي، حينما كسرت فكرة أن جيش "إسرائيل" لا يقهر، ثمّ أتى اليمن متممًا منهاج المقاومة، كنموذج دولة تخوض المواجهة مباشرة.
على مدار عقود عملت الماكينة الإعلامية العربية على إلهاء الشعوب عن البُعبُع الحقيقي "إسرائيل"، بالتركيز على تهديدات أخرى أوجدتها هي وأجهزة الاستخبارات الغربية، أنتجتها ووظفتها ثمّ شيطنتها وحاربتها، وفي مرحلة لاحقة أعادت تدويرها، ثمّ لاحقًا قدمتها كعدو. هذا، ووظّفت "النخب" صوغ نظريات تبرر السياسات الرسمية، فتُقدم النهب والحلب، عندما يمارسه الأميركيون تحديدًا، كسياسة بُعد نظر وتعزيز نفوذ على مستوى الساحة الدولية. وفي خط موازٍ لُزِّم الدعاة شرعنة الخيانة، وتصوير التطبيع مع العدوّ على أنه تسامح ديني وانفتاح ثقافي. والشغل كان يستهدف الجماهير ووعيها الذي تصالح مع الخزي، ووجدانها الذي تبلَّد إزاء فظاعات الجرائم التي تبث على الهواء.
وقف اليمن كاسرًا للإطار، متمردًا على المفاهيم. وفي الوقت الذي لم يكن قد التقط أنفاسه لنفض غبار العدوان السعودي عنه، اقتحم قلب المعركة؛ ليعري زيف العناوين. وهو البلد الذي لا تقارن إمكانياته بأشقائه العرب قبل أن يُدمر عدوان الأشقاء بناه التحتية بالكامل. وهو الذي لم يُمنح فرصة بناء الدولة، بل كان يُثبت أساساتها تحت وطأة الحرب. والاعتراف الخارجي ممنوع عنه بقرار جارته الكبرى، وداخله بين مؤيد وطاعن كالخنجر في خاصرته، يتجند للقتال في مشاريع عابرة للحدود… وسط كلّ هذا المشهد كانت البوصلة اليمنية واضحة نحو المواجهة مع "إسرائيل"، حتّى وقف عدوانها. ووسط كلّ هذا كان الحضور اليمني فاعلًا في المواجهة، تضرب صواريخه عمق الاحتلال، وتفرض إغلاق ميناء إيلات بعد الإفلاس بفعل الضربات، وتُصعد الحصار البحري من البحر الأحمر وصولًا لمياه المتوسط. وفي ما يتكتم الصهاينة عن الاعتراف بخسائرهم، ثمة مؤشرات تعبر عنها، كحالة التدافع العربي للتعويض عما يلحق الكيان من أضرار.
يفرض اليمن حصارًا بحريًا على الاحتلال، فتفتح الدول العربية جسرًا بريًا كخط إمداد بديل، وتنشط الموانئ العربية والإسلامية كمحطات ترانزيت وتمويه لسد حاجات العدو. وفي مقابل الصواريخ اليمنية، تتحرك دفاعات جوية عربية لصدها. وعندما تهدّد صنعاء بالثأر لاغتيال أعضاء حكومتها، تستنفر المملكة الجارة بمقاتلاتها الحربية تجوب الحدود اليمنية استطلاعًا لكل التحركات.
قال العرب كلّ شيء لتسويغ الخيانة، إلا أنهم لم يفصحوا عن حقيقة - نعرفها جميعًا - وهي أن أنظمة: "جلالة الملك" و"سمو الأمير" و"طال عمره" عبارة عن محمّيات رسم الاستعمار حدودها، ومنها أسباب البقاء، ومن ثَم حظيت بدعم حكام البيت الأبيض، كخط دفاع أول عن قاعدة الاستكبار العالمي في المنطقة، استعمارًا كان أو هيمنة. المفكر المصري الراحل عبد الوهاب المسيري، وهو أبرز من درسوا الفكر الصهيوني، سُئل يومًا ما: متى تصبح "إسرائيل" عاجزة عن البقاء؟ فأجاب أن مقومات حياة "إسرائيل" ليست من داخلها بل من خارجها، وتتمثل بعنصرين: الدعم الأميركي اللا محدود، والغياب العربي بلا حدود. لتختصر إجابة المسيري كلّ شيء.