مقالات
شكَّلت الغارة الصهيونية على العاصمة القطرية الدوحة رسالة إنذار جديدة إلى دول المنطقة بشأن الخطر الصهيوني المتمدد تدريجياً على طول مساحة الإقليم، وأكدت بالملموس أن العدو لا يبحث عن حلول ولو مؤقتة للحرب في غزة، ويسعى بكل جهده للاستفادة من اللحظة "التاريخية" المتاحة له من أجل تحقيق أكبر قدر من المكاسب على حساب دول المنطقة، وليس فقط على حساب الشعب الفلسطيني.
فالغارة على الدوحة، وما سبقها من غارات على إيران واليمن وسورية ولبنان، وكذلك قصف سفينة تابعة لمتضامنين مع غزة في تونس، تضيف أخطارًا نوعية جسيمة على أمن المنطقة ككل، لا سيما في ضوء ما يقال عن استعداد العدو لجولة جديدة في حربه ضد إيران، وما قد يتسبب به ذلك من تداعيات. ومن جهة أخرى، يُعدّ هذا التمادي الصهيوني دليلاً آخر على التواطؤ الأميركي مع العدو بهدف تمكينه من إحكام سيطرته على المنطقة وفرض نفسه على بلدانها جميعاً.
السياق الإسرائيلي للغارة
دون أدنى شك، فإن مجرد تنفيذ عدوان جوي في وضح النهار على عاصمة عربية تقع خارج "صندوق بريد" العدوان الصهيوني اليومي هو رسالة استعلاء إسرائيلية غير مسبوقة؛ تؤشر إلى استعداد العدو لممارسة المزيد من البطش وتحدي الأخطار السياسية؛ من أجل فرض سيادة الكيان على كامل المنطقة أمنياً وإستراتيجياً. ويشير اختيار الطائرات الحربية وسيلةً لتنفيذ العملية، بدلاً من اللجوء إلى عملية أمنية تخفي البصمات الإسرائيلية، إلى جرأة إسرائيلية تُذكّر في الشكل والمضمون بقصف طائرات العدو مقر منظمة التحرير الفلسطينية في حمام الشطّ؛ الضاحية الجنوبية للعاصمة التونسية، عام 1985. وإذا أضفنا إليها مبادرة جيش الاحتلال لإعلان مسؤوليته عن الغارة بصورة فورية؛ لتبديد أي شك حول أهدافها، يتضح أن هناك مسعى لرسم لوحة تحكُّم إسرائيلية؛ يسمح فيها الكيان لنفسه باستباحة دول المنطقة جميعها من أجل تحقيق أهدافه الأمنية والإستراتيجية. ويلاحَظ أن هذا يتم بالتدريج وبعناوين مختلفة:
فالغارة على قطر تمت بدعوى الاقتصاص والثأر من قيادة حماس التي ظهرت في شريط فيديو، وهي تحتفل وتسجد سجدة الشكر بعد انطلاق عملية 7 أكتوبر 2023.
والغارة على قواعد عسكرية سورية في يوم سابق تمت بدعوى منع نصب أجهزة دفاع جوي تركية في سورية.
والغارات على صنعاء قبل ذلك، والتي جرى خلالها استهداف اجتماع مجلس الوزراء اليمني، تمت بدعوى الثأر من عمليات الإسناد اليمنية للشعب الفلسطيني في غزة.
والعدوان الكبير على إيران في حزيران/ يونيو الماضي جرى بدعوى تدمير برنامج إيران العسكري النووي، وهذه مزاعم يكررها العدو على أمل أن تصبح لدى الرأي العام حقيقة مسلَّماً بها.
وعمليات الاغتيال في لبنان بصورة يومية خلافاً لمنطوق القرار 1701 تتم بدعاوى مختلفة: مرة القضاء على كادر يعمل في ميدان المقاومة، ومرة أخرى القضاء على محاولات ترميم قدرات حزب الله العسكرية، ومرة ثالثة القضاء على مموّلين للحزب.. إلخ.
وفي غزة، تتوالى الذرائع الصهيونية لتبرير استمرار المذابح اليومية بحق أهل القطاع المحاصَرين والمجوَّعين، بهدف دفعهم إلى ترك أرضهم؛ لتصبح حكراً على المستوطنين الصهاينة.
كل هذا المشهد الممتد في الإقليم يطرح مخاوف جدية بشأن احتمالات توسع نطاق نيران العدو لتشمل مساحات جديدة، لا سيما في ضوء ما طرحه نتنياهو عن خريطة "إسرائيل الكبرى" وما يتطلبه تنفيذها من تسخين متواصل.
لكن في خلفية الحدث يكمن مأزق داخلي صهيوني يتفاقم بسبب الاستنزاف العسكري وطول مدة الحرب الجارية وطريقة إدارتها وعدم وضوح أهدافها النهائية. وهذه الأهداف يعاد تشكيلها بين وقت وآخر من قبل رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، بحيث تخدم استمرار الحرب لأطول فترة ممكنة من أجل سدّ الفجوات بين الطاقم السياسي الحاكم والجيش والمجتمع الإسرائيلي بكل تلاوينه.
وجاءت الغارة على الدوحة بعد أيام من مماطلة نتنياهو في إبداء موقف صريح من مقترح أميركي جديد لتبادل الأسرى، بعد إسقاطه مقترحاً أميركياً سابقاً قبلته حماس. ويكشف هذا التطور الجديد عن تهرُّب مستمر من أي مسعى لوقف الحرب عن طريق تشتيت الانتباه في اتجاهٍ مختلف والعمل لتحقيق إنجازات أمنية تكتيكية تفيد بقاء "السيد أمن" (نتنياهو) في الحكم، ومراكمة رصيده من الإنجازات في ساحات مختلفة، وهو الذي لم يتمكن خلال ما يقرب من عامين من إنهاء أي حرب بدأها، سواء في غزة أو لبنان أو إيران، كما لم ينجح في ردع وإيقاف جبهة الإسناد اليمنية.
ويُطرح السؤال هنا: هل يدفع نتنياهو ثمن العدوان على قطر وفشله في اغتيال القيادة السياسية لحركة حماس، عن طريق القبول بوقف الحرب على غزة ولو مؤقتاً، كما فعل بعد محاولة اغتيال خالد مشعل في عمّان عام 1997 حين اضطر للتكفير عن هذه الجريمة إرضاءً للملك حسين بالإفراج عن الشيخ أحمد ياسين؟ ربما يكون هذا الاحتمال وارداً بالنظر إلى اشتداد الضغوط عليه داخلياً بشأن تكاليف الحرب في غزة، وإن كانت الظروف مختلفة كثيراً عن الماضي، حيث يحظى نتنياهو بتأييد أميركي مفتوح، ويتمتع بقوة جوية ساحقة يعتقد أنها تسمح له بتقرير ما يريد.
السياق الأميركي
سعى الجانب الاميركي لتبرئة ساحته من الغارات الإسرائيلية على العاصمة القطرية، لسببين:
- إعلان العدو أنه أبلغ الجانب الأميركي بالغارات قبل وقوعها. وهنا، جهدت الإدارة الأميركية للتوضيح، أن إبلاغها بالغارة تم بعد إطلاق الصواريخ الإسرائيلية! كأن الرادارات الأميركية المنصوبة في المنطقة طولاً وعرضاً لا تملك أي فكرة عما قد يفعله سرب كبير من الطائرات الإسرائيلية تحرك باتجاه منطقة الخليج. أو كأن إسرائيل تملك صلاحية التحرك في منطقة عمل القيادة الوسطى الأميركية وعلى مقربة من مقرها في قاعدة "العُدَيد" القطرية دون التنسيق معها. وللتذكير، فإن قائد المنطقة الوسطى الجنرال براد كوبر زار فلسطين المحتلة قبل ثلاثة أيام من الغارة على الدوحة، واجتمع الى رئيس أركان جيش العدو أيال زامير. وذكر بيان للجيش الإسرائيلي أن الزيارة "ركزت على التعاون العملياتي بين الجيش الإسرائيلي والجيش الأميركي، والحفاظ على الاستقرار الإقليمي في الساحات القريبة والبعيدة، وتعزيز الجهود المشتركة لمواجهة التحديات والتهديدات في المنطقة". فهل كانت خطة اغتيال قيادة حماس ضمن مباحثات الجانبين؟
يلاحظ هنا الآتي:
- أن الدفاعات الجوية الأميركية في قاعدة العُديد لم تقم بأي دور في عملية التصدي أو حتى إطلاق إنذار مسبق! ومعلوم أن هذه الدفاعات قامت بدور نشط في التصدي للصواريخ الإيرانية التي استهدفتها في حزيران/ يونيو الماضي.
- أن التسليح الأميركي لإسرائيل يتيح لها زيادة قدرات "ذراعها الطويلة" بالمقاتلات الحربية والصواريخ الدقيقة الخارقة للتحصينات وطائرات التزويد بالوقود جواً (1800 كلم تفصل فلسطين المحتلة عن الدوحة).
- أن المعلومات الاستخبارية التي يتبادلها الأميركيون والإسرائيليون عبر غرفة تنسيق مشتركة وعبر قيادة المنطقة الوسطى التي تتخذ من قاعدة "العديد" جنوب الدوحة مركزاً لها، تشكل مجال تعاون بين الجانبين قد يشمل توفير معلومات عن تحركات قيادات المقاومة الفلسطينية وجهات أخرى.
- أن الإدارة الأميركية توفر للكيان تغطية سياسية مفتوحة تجعل حكومة الاحتلال واثقة من أنها لن تتعرض لأي ضغوط تحدّ من حركتها. ويلاحظ أن إدارة ترامب لم تشجب الغارات الإسرائيلية على العاصمة القطرية، واكتفت بالإعراب عن "الأسف" لهذا "الحادث"، وقالت إن ما جرى على أراضي قطر "لن يتكرر"!!
وتحظى قطر برعاية أميركية دفاعية خاصة بموجب إعلان قطر حليفاً رئيسًا للولايات المتحدة من خارج الناتو في مطلع شباط/ فبراير 2022. وقال المتحدث الرسمي باسم وزارة الدفاع الأميركية (البنتاغون) جون كيربي يومها: إن "هذا التصنيف سيغيّر الطريقة التي تتعامل بها الولايات المتحدة وجيشها مع قطر". كما يرتبط الجانبان باتفاقيات تعاون دفاعي رسمي وُقعت في حزيران/ يونيو 1992.
- والأهم ربما، أن الإدارة الأميركية - عبر مبعوثها ستيف ويتكوف- استدرجت قيادة حماس إلى عقد اجتماع لدرس مقترح جديد لتبادل الأسرى. وخلف كل "مبادرة" أميركية يكمن عدوان إسرائيلي غادر. والشواهد على ذلك عديدة خلال هذين العامين. حصل ذلك مع إيران في ملف التفاوض النووي، وحصل ذلك مع قيادة حماس في غزة عند تجميع الأسرى تمهيداً للتبادل في وقت سابق هذا العام، وحصل ذلك في لبنان في العام الماضي.
في الحصيلة، تفيد التجربة المستمدة من الماضي، بأن فشل عملية اغتيال القيادة السياسية لحركة حماس في الدوحة لا يعني بأي حال أنها ستكون الأخيرة، فالعدو وضع نيته بهذا الصدد على الطاولة بصورة فجة، وهو منذ شهور عديدة يقول، إنه سيستهدف قيادات حماس في الخارج. وما حصل هو خرق لأمن دولة عربية أخرى حليفة للولايات المتحدة الأميركية وإشهار بأن حدود "إسرائيل" الأمنية تصل إلى أرجاء المنطقة كلها. ومن جهة أخرى، قد تفيد العملية الفاشلة في تسريع المفاوضات حول تبادل الأسرى ووقف النار ولو بصورة مؤقتة، كثمن يتوجب على حكومة نتنياهو أن تدفعه من أجل امتصاص آثار الفشل والضغوط الداخلية بشأن استمرار الحرب في غزة.