مقالات

شكَّل التصعيد النوعي للمقاومة على مختلف جبهاتها مفصلاً تاريخيًّا وبعث برسالة إستراتيجية مفادها، أن خطط تصفية القضية ليست إلا أوهامًا، وأن المعركة الصفرية التي يخوضها العدو وتعجله في النصر الساحق، ليست إلا تعجيلاً بانهياره وزواله.
فقد شهدت الايام الماضية أكثر من عشر عمليات نوعية يمنية أصابت أهدافها العسكرية والسياسية معًا، كما شهدت عملية فدائية نوعية في القدس المحتلة عند مفترق راموت، إضافة إلى تكثيف العمليات البطولية في غزة المحاصرة والتي تشهد غزوًا لإعادة احتلالها.
وما يجعلنا نذهب إلى أن هذه العمليات ليست عادية، وأن لها رسائل كبرى، هو التوقيت والوضع الإستراتيجي للجبهات والوضع السياسي الإقليمي والدولي، وهو ما يحتاج لإلقاء ضوء وبعض من التفصيل:
أولًا: التوقيت والوضع الإستراتيجي والسياسي:
جاء التصعيد النوعي لجبهات المقاومة في وقت حرج يشهد مزيجًا من الاستسلام والتواطؤ من جانب الأنظمة العربية، ويشهد حالة من الانهزامية لدى العديد من النخب والقطاعات الشعبية، وتسييد حالة نفسية وإعلامية مفادها، أن تصفية القضية وإقامة "إسرائيل الكبرى" هي مسألة وقت، وأن المراحل التنفيذية تم تدشينها وسط صمت دَولي وبقيادة أميركية مباشرة.
كما تبجَّح العدو "الإسرائيلي" والأميركي بنشر وتسريب الخطط في غزة والضفة وجنوب لبنان، وتم الحديث علنًا عن التهجير إلى سيناء، وتم استهداف اليمن بشكل إجرامي لأهداف مدنية واستهداف حكومة مدنية بعد الإفلاس في تشكيل بنك أهداف عسكري، إضافة إلى التهديدات المتواصلة للبنان وإيران في إيحاء بأن العدو له اليد الطولى، ولن يستطيع أحد إيقاف مخططاته، وهي حالة نجح العدو في جعلها حائط صد أمام الانقسامات الداخلية في الكيان والتظاهرات اليومية لأهالي الأسرى لدى المقاومة.
وبالتالي جاءت عمليات المقاومة النوعية لكبح جماح العدو وكسر صورة النصر التي يحاول تصديرها، وبث الرعب في قلوب المستوطنين وفتح أبواب الجحيم السياسية والاجتماعية في الداخل "الإسرائيلي".
ثانيًا: رسائل عملية القدس:
شكلت عملية القدس عند مفترق "راموت" عودة بالذاكرة إلى الأيام "الإسرائيلية" السوداء، وخاصة في انتفاضة الأقصى التي اندلعت في 28 أيلول/سبتمبر 2000، حيث شهدت عشرات العمليات الفدائية النوعية، والتي لم تتوقف إلا بهدنة وانسحاب "إسرائيلي" من غزة.
وبالتالي، فإن الرسالة الفلسطينية المباشرة هي أن عودة احتلال غزة ومحاولة ضم الضفة وتصفية القضية، ستعيد الفلسطينيين لانتفاضتهم المسلحة، وستشهد كامل فلسطين المحتلة من النهر إلى البحر عمليات نوعية وفدائية وهو مأزق صهيوني وجودي، إذ لا يزال الكيان حتى الآن يحاول محو أحداث السابع من أكتوبر من الذاكرة الصهيونية، رغم محدودية نطاقها في محيط غزة، وسيجد نفسه الآن مطالبًا بحماية كامل فلسطين المحتلة وطمأنة مستوطنيها الذين فقدوا الثقة في قدرة الكيان على توفير الأمن رغم الدعم الأميركي الدولي، بل والعربي على المستويات العسكرية والأمنية والاقتصادية كافة.
ثالثًا: رسائل عمليَّات غزة:
رغم حرب الإبادة والتجويع والدفع نحو التهجير القسري، ورغم نشر خمس فرق عسكرية تضم عشرات الألوية وإعلان الكيان سيطرته على 40% من مساحة غزة، فإن كل التقارير العسكرية تفيد بأن السيطرة البرية محدودة، وأن السيطرة النارية فقط هي المتحققة عمليًّا بواسطة القصف الإجرامي والروبوتات المفخخة وطائرات "كواد كابتر" المسيَّرة.
وقد جاءت عملية غزة الأخيرة، والتي أسفرت عن مقتل 4 جنود صهاينة بعد أقل من ساعة فقط على توجيه نتنياهو أوامر لأهل مدينة غزة بإخلائها.
وهنا، فإن استمرار عمليات المقاومة واستهداف الجنود هي رسالة، بأن السيطرة البرية والاحتلال أمران بعيدا المنال، وأن تدمير غزة وبيوتها وأبراجها واستهداف المدنيين العزَّل لن يكفل وجود الجنود على الأرض، وأن هناك معركة طويلة عنوانها الإرادة ومن يصرخ أولًا، وهي رسالة تحمل سؤالًا إستراتيجيًّا للكيان وجيشه، حول مدى تحمل الخسائر، ومدى تحمل أهالي الجنود لمشاهد التوابيت وتوقُّع أن يكون الدور على أبنائهم.
كما يشكل هذا الصمود كلفة كبرى على القائد الأميركي للعدوان وعلى المتواطئين دوليًّا وعربيًّا، إضافة إلى أنه يعيد للأذهان صمود المقاومة اللبنانية، والذي انتهى بالنصر وتحرير جنوب لبنان وطرد الاحتلال في العام 2000.
رابعًا: رسائل اليمن:
كما شكل اليمن مفاجأة إستراتيجية غير سارة للعدو "الإسرائيلي" والأميركي، عبر الصمود والنجاح في الوصول لأهدافه في العمق وفرض حصار بحري، فإنه شكل مفاجأة كبرى في تطوير أسلحته ومسيَّراته وتشكيل كابوس فرض حصار جوي عبر النجاح المتكرر في استهداف مطار اللد "بن غوريون" ومؤخرًا مطار "رامون" في إيلات.
ولا شك أن استهداف الحكومة اليمنية بعملية اغتيال جبانة للوزراء، كانت رسالة تخويف صهيونية، إلا أن العدو تفاجأ بمزيد من التحدي والتصعيد والكشف عن أسلحة نوعية عمَّقت أزمته وثقة المستوطنين بالكيان وجيشه واستخباراته، وأصبح الكيان مهددًا بإضافة الحصار الجوي إلى البحري، وأصبح المستوطنون رهينة الملاجئ.
والخلاصة، أن الكيان بات يواجه مقاومة شاملة ونوعية، وبات مهددًّا من الجو وعلى الأرض، سواء الجنود المهددون بعمليات المقاومة، أو المستوطنون المهددون بالعمليات الفدائية، وسط فشل تام في تحقيق سيطرة على الأرض، رغم توفر كامل الدعم العسكري والأمني والاستخباراتي والسياسي، وهو تدشين لمسار الفشل والانهيار ويأس المستوطنين، وفتح أبواب الهجرة العكسية مجددًا، وفتح أبواب الجحيم السياسي عبر الانقسامات والمزايدات التي ستتفجر حتمًا بين الفرقاء الصهاينة.