مقالات

رغم الصخب الشديد والعالي الصوت، الذي يمارسه الكيان سياسيًا وإعلاميًا، إلّا أنّ سمة التردّد لا تزال ظاهرة في سلوكيات "جيش" الكيان عسكريًا، منذ إعلانه عن بدء ما سمّي "عربات جدعون2"، وهذا التردّد يعود لعدة عوامل مفصلية، يحاول عسكريو الكيان التعمية عليها بالقدرة على ارتكاب الجرائم.
يُعيد عسكريو الكيان تردّدهم في احتلال مدينة غزّة، إلى تخوفهم من الاضطرار إلى إقامة حكم عسكري في غزّة، وهو ما سيكلفهم الكثير من المال، كذلك يعيدون ذلك إلى تضرر صورة الكيان أخلاقيًا وسياسيًا على الساحة الدولية، رغم أنّ هذا ليس من صلب دور العسكريين، لكنّه تعبيرٌ آخر عن سمّة التردّد.
ولكن هناك وقائع وحقائق، تؤكد أنّ ما يقوله العسكريون، ليس الحقيقة الكاملة، بل هناك أزمات بنيوية ومعنوية وعسكرية يعاني منها "الجيش"، وهو يدرك أنّ العملية الجديدة لن تؤدي، بشكلٍ قطعيّ، إلى تحرير الأسرى أو استسلام حماس، هذا في وقتٍ سيتعرض "الجيش" لضرباتٍ ستزيد من أزماته وتعمق شروخاته، وقد تؤدي إلى مقتل الأسرى الأحياء وضياع جثث الأموات.
ولكن السؤال المركزي لا زال يتردّد في كلّ زوايا الأرض، لماذا الإصرار "الإسرائيلي" على خوض حربٍ، لن تؤدي في النهاية إلّا لتهشيم الكيان وجيشه؟ ومنذ انطلاق العدوان بنيّة الإبادة، كنا نقول إنّها حربٌ أميركية، بينما كان الكثيرون يجزمون أنّ نتنياهو هو من يمسك بزمام أميركا، ويوجهها حيث يشاء، وهذه مجرد دعاية سمجة، وأميركا ذاتها معنيّة بإشاعة هذه الدعاية، من باب تضخيم الكيان، وبالتالي تخويف أعدائه، ليمرّوا بالرضوخ إليه كشرطٍ للرضى الأميركي.
في الأسبوع الأخير، أتت هذه الإجابة عن لسان يسرائيل زيف "قائد فرقة غزّة" السابق حيث قال: "الحكومة تجرّ (إسرائيل) إلى خطوة قاتلة في غزّة، لمجرد إرضاء الرئيس الأميركي، ونتنياهو لن يتحرك قيد أنملة دون موافقة ترامب، وجميع القرارات التي اتّخذتها الحكومة خلال الحرب، كانت بإملاء من الولايات المتحدة وحدها"، ثمّ جاء الدليل الأبرز، حين قال نتنياهو: "ترامب أبلغني بتجاهل الصفقات الجزئية، والمضيّ قدمًا في الحسم العسكري".
وهذه أدلةٌ قطعية الدلالة على أنّ الإبادة الجماعية في غزّة، هي حربٌ أميركية، تتعلق بمصالح الإمبراطورية، ولا علاقة لها بالأسرى وعائلاتهم، فالولايات المتحدة تريد تأديب الجميع في المنطقة من خلال إبادة غزّة، وستكون هي مشهدًا متكرّرًا لكل عاصمةٍ تفكر في قول "لا للهيمنة الأميركية"، وسيكون الانتصار المطلق الذي يردّده نتنياهو بشكلٍ ببغائي واستسلام غزّة، بطاقة عبور الإمبراطورية لقرنٍ أميركيٍ جديد، والمنطقة ستظل خاضعةً للهيمنة الأميركية، عبر السيطرة "الإسرائيلية".
وعليه فإنّ الحرب في غزّة، ليست مجرد قرار "إسرائيلي" إنّما هي تعبيرٌ حيّ عن صراع أميركي مع نواميس التاريخ وسنن الله للبقاء على القمة، وهذا ما يجعل آفاقها بلا نهاية، وشررها سيظل يمتد لكل الساحات حتّى لو لم يرغب أطرافها بذلك، حيث تعتقد الولايات المتحدة أنّ هذه فرصة لن تتكرّر للقضاء على كلّ مراكز الرفض والقوّة في المنطقة، فيما يظنّ أعداؤها، أنّ سلاحهم وقوتهم مصدر وجودهم، وبدون هذه القوّة لا وجود لهم، وهذا صراعٌ صفريٌّ لا نهاية له سوى بنصر طرف واستسلام آخر.
بدأ الكيان باستهداف الأبراج العالية في مدينة غزّة، وهو سلوك بخلاف أنّه متوافقٌ مع عقلية الإجرام والإبادة الصهيونية، فهو جزء من محاولة اصطناع صورة مريرة، للضغط على سكان غزّة معنويًا لإجبارهم على التفكير بجدوى حياتهم، وجدوى البقاء في غزّة، وكذلك ضغط هائل على فصائل المقاومة لدفعها للتفكير بالاستسلام، دون الاضطرار لعملية عسكرية موسعة، تُجنّبه الخسائر البشرية والمادية والمعنوية.
وهذه قد تكون إستراتيجية جديدة يتبعها الكيان، بعد اكتشاف ضعف وعجز قواته البرية، مع تفوق في سلاح الجو، وتفوق في الحرب الأمنية، وهذا قد يغريه لاستخدام أوراق القوّة هذه في ساحاتٍ مختلفة، كإيران ولبنان، في ما تعتقده الولايات المتحدة هدفًا قابلًا للتحقق، خصوصًا مع بيئة لبنانية أو سورية، قد تغطي مواطن الضعف البري في "جيش" الكيان، وإيران كذلك في حال اندلاعها ستكون حرب تراشق، بعيدة عن اختبار القوات البرية، بل حرب جوٍّ وأمن.
لذلك فإنّ ما تُسمى "عربات جدعون2"، ستستمر في محاولةٍ لتهجير سكان مدينة غزّة نحو الجنوب، تحت ضغط النار والتجويع، وستستمر لتكون مرتكزًا لاعتداءاتٍ أخرى في ساحاتٍ أبعد، لمحاولة استيلاد واقعٍ جديد، تكون فيه كلّ عواصم الشرق خالية من الرفض، وبالتالي تحقيق هرطقاتٍ توراتية، تحمل قرنًا أميركيًا جديدًا على غبار أوهامها، ورغم أنّ كلّ الدلائل تشير إلى فشل هذا الوهم في أن يصبح واقعًا، فإنّه سيستهلك الكثير من التضحيات المهيبات.