نقاط على الحروف

يتفق مؤيدو المقاومة في لبنان وخصومها على الصفات الاستثنائية التي توفرت في شخصية سيد شهداء الأمة السيد حسن نصر الله، والتي جعلته قائدًا لامعًا يتجاوز بتأثيره الحدود القُطرية والقومية والطائفية. وكانت له شعبية واسعة جدًا في العالمين العربي والإسلامي وما بعدهما، يشهد عليها التفاعل مع خطاباته، ومع استشهاده.
ويعترف الجميع أيضًا بأن السيد نصر الله كان قائدًا محوريًا من الطراز الرفيع، وقد يكون دوره في الإقليم أكثر أهمية من دوره في لبنان، بعيدًا عن الدعاية المضادة التي كانت تروّج صورة التابع لإيران والأداة العاملة في سبيل مصلحتها الذاتية.
النموذج القيادي والتنظيمي
ولو أردنا أن نلخص دوره وتأثيره العابر للحدود، يمكن أن نشير إلى العناوين الآتية:
أولًا: جمع السيد الشهيد بين مواصفات القائد السياسي والجهادي وعالم الدين المُبيِّن والمثقِّف. واجتماع هذه الخصائص يتطلب جدارة شخصية وفهمًا لأحوال السياسة والمجتمع وممارسة نزيهة للمسؤولية واستعدادًا للتضحية وتحمل المشاقّ والتحديات. وقد أهّله ذلك لتبوّؤ موقع المحرّك والمُلهم للملايين من الناس. وقد ساعدته في ذلك الكاريزما التي تمتع بها وقدرتُه على البيان والتعبئة، كما أتاحت وسائل التواصل للكثيرين التعرّف عليه بعيدًا عن محاولات التشويش و"الفلترة". وليس غريبًا أنه كان في صدارة القادة العرب الأكثر شعبية، وفقًا لاستطلاع أميركي للرأي أجري في ست دول عربية عام 2009، كما عُدّ من بين أكثر خمسين شخصية تأثيرًا في العالم الإسلامي، بحسب دراسة صدرت عن المركز الملكي للبحوث والدراسات الإسلامية بالأردن سنة 2009 أيضًا.
ثانيًا: بنى السيد نصر الله رؤيته القيادية على إدارة الصراع مع "إسرائيل"، وعُدَّ من الشخصيات القليلة التي تحسب "إسرائيل" لها ألف حساب، وكان يُنظر إليه أنه الزعيم العربي الوحيد الذي يفعل ما يقوله، فإذا توعّدها كانت تتأهب لأيام وأسابيع، وإذا كرّس معادلة ما في الصراع أخذت ذلك في الاعتبار وتحاشت خرقها، ما دفع العدوّ لوضعه في مصاف تهديد إستراتيجي والتخطيط لاغتياله. وربما كان الإنجاز الأساسي الذي حققه السيد الشهيد - إلى جانب قوى المقاومة الأخرى - النجاح في إدامة الصراع مع الكيان الصيهوني، بعدما اعتقد الكثيرون في تسعينيات القرن الماضي أن الصلح معه آتٍ والتطبيع قدر لا مفرّ منه.
ثالثًا: تمكَّن السيد نصر الله من تحويل منظمة جهادية تعبوية إلى نموذج يُحتذى في أرجاء العالم الإسلامي تقوم بأدوار تفوق ربما حجمها الفعلي. واتّسم هذا النموذج بالانضباط والفعالية والتخطيط الإستراتيجي والعقلاني، خارجًا عن مألوف النماذج الأخرى التي تسلك درب السياسة بعيدًا عن الجهاد، أو تروّج للجهاد بعيدًا عن العمل السياسي والجماهيري. حتّى بعض المنظمات التي ناصبته العداء، عادت لتقتبس من أسلوب عمل حزب الله وحاولت أن تجمع بين العمل العسكري والعمل السياسي والتعبئة الجماهيرية.
رابعًا: تُعدّ الخطابة المشفوعة بالمصداقية عِدّة أساسية استخدمها السيد الشهيد في مواجهة العدو، وليس من قبيل المبالغة إذا قيل إن خطابه كان سلاحًا من أسلحة الردع لدى المقاومة. وهذه ميزة هامة في عالم يحتكم إلى المعادلات المادية العسكرية والاقتصادية ولا يعير أهمية تُذكر لحقوق الشعوب المستضعفة. وكانت خطاباته محط اهتمام وسائل الإعلام العبرية التي تعقد حلقات مناقشة لتحليل ما يقوله وما سيخلّفه ذلك على أمن الكيان وسياساته العسكرية. وبقي خطاب "بيت العنكبوت" الذي ألقاه في بنت جبيل بمناسبة التحرير عام 2000 يرنّ في آذان قادة الاحتلال، حتّى إنّ بنيامين نتنياهو رئيس وزراء العدوّ استعاد هذا الخطاب في أثناء إعلانه عن عملية اغتيال السيد نصر الله العام الفائت. ولمعرفة وقع كلماته على العدو، نشير إلى ما جاء في كتاب أعدّه اثنان من ضباط مخابرات العدوّ بعنوان "نصر الله أسطورة لا تموت؟" وسُمح بنشره مؤخرًا، وفيه: "كان الكتاب جاهزًا في 6 تشرين الأول/ أكتوبر 2023 وانتهى بجملة: نصر الله يجب أن يموت. كانت حجتنا أنه لا يمكن أن تدخل "إسرائيل" مواجهة جديدة مع حزب الله، وفي نهايتها يصعد نصر الله ليلقي خطابًا. يجب أن يموت، لأنه إذا خطب، فهذا ".
السيد قائدًا لمحور المقاومة
في الوقت الذي كان بعض المراقبين يتوقع أن يلقي حزب الله سلاحه ويأخذ استراحة محارب طويلة بعد تحرير جنوبي لبنان، كان السيد نصر الله يستشرف البناء على هذا الإنجاز لنقل التجربة إلى فلسطين. وكان خطاب التحرير في العام 2000 انطلاقة في هذا الاتّجاه، حيث أكد السيد الشهيد على أهمية تحرك الشعب الفلسطيني للتخلص من الاحتلال، وتحقق ذلك بعد شهور قليلة من خلال تفجير انتفاضة الأقصى. وقدّم حزب الله دعمًا للمقاومة الفلسطينية بوسائل مختلفة تدريبًا وتسليحًا وسوى ذلك.
أيضًا، كان لحزب الله دور في مساندة الشعب العراقي في مواجهة انفلاش تنظيم "داعش" في العام 2014، ما ساعد في احتواء الخطر الذي يمثله التنظيم التكفيري على الاستقرار الإقليمي بشكل عام. كما عمل حزب الله بعد العام 2011 على مساندة سورية في أثناء محنتها من أجل مواجهة التدخلات الهادفة لتفتيتها، وهذه المساندة آتت أُكُلها. وكان هناك إدراك لدى الأمين العام الشهيد لأهمية موقع سورية في الصراع ومنع سقوطها في يد المحور الأميركي، وكان يرى أهمية الحفاظ على هذا الموقع من أجل مستقبل المقاومة والبلدين، مقدّرًا موقف القيادة السورية الصلب حيال الصراع مع الكيان الصهيوني، ومتفهّمًا الحاجة إلى تجنيب سورية - كدولة - الدخول في حرب مباشرة مع العدوّ بسبب الفجوة القائمة حاليًّا في التوازن العسكري التقليدي. وبعد التحول الذي طرأ على سورية نتيجة العدوان الصهيوني على لبنان عام 2024، ثبت أن ما كان يخشاه حزب الله من نقل سورية إلى المعسكر المعادي ووضعها على خط "السلام" والتطبيع مع العدوّ بدأ يتحقق تحت شعار توفير "الاستقرار والازدهار".
وينظر بعض السياسيين إلى دور حزب الله في الإقليم نظرة نقدية، ويقولون إنه جرّ على لبنان تداعيات سياسية وأمنية. لكنّهم لا يعترفون بأن العديد من الأخطار تم دفعها بفعل هذا التدخل، وفي مقدمها الخطر الجسيم الذي كان يمثله تنظيم "داعش" على العراق وسورية ولبنان وبلدان عربية أخرى، وفي بعض المحطات كان تنظيم "داعش" والمنظمات التكفيرية الأخرى على حدود لبنان الشرقية ويحتلون جزءًا من أراضيه. كما أن رهان حزب الله على الأخوة في "أنصار الله" كان في محله حيث سجلوا موقفًا فريدًا في دعم فلسطين، بالرغم من المسافة التي تفصلهم عنها. إضافة إلى ذلك، يغفل الناقدون عن فترة ذهبية تمكّنت فيها المقاومة من تشكيل سياج يحمي لبنان من العدوان الصهيوني بين العامين 2006 و2023، وبالتالي لا يجوز اختزال ما أنجزته المقاومة طوال عقود بتغيرات تضافرت فيها قوى إقليمية عدة.
أما إسناد حزب الله للمقاومة الفلسطينية في معركة "طوفان الأقصى" وما قبله، فقد كان أقل الواجب الأخلاقي والشرعي في مواجهة العدوّ المشترك، وأي تخلف عن المشاركة في هذه المعركة كان سيترك تداعيات خطيرة على وحدة ساحة المقاومة والتشنيع على المقاومة في لبنان بكلّ الاتهامات المذهبية والفئوية والتساؤل عن جدوى وجود سلاحها. وكلّ الافتراضات التي تقول الآن إن عدم التدخل في هذه المعركة كان يمكن أن يجنّب لبنان الخسائر والدمار، مبنيّةٌ على نظرية أن العدوّ لا يتحرك إلا إذا تعرض لهجوم. وهذه النظرية تخالف السيرة التاريخية العدوانية للكيان الصهيوني، كما تتناقض مع التهديدات التي كان نتنياهو يطلقها منذ عام 2018 وما بعده بمهاجمة لبنان بذريعة وجود صواريخ دقيقة أو أنظمة دفاع جوي. هذا، إضافة إلى ما كُشف عن أن خطة تفجير أجهزة "البايجر" تم إعدادها قبل ذلك بسنوات.
في الخلاصة، لعب السيد الشهيد دورًا مركزيًا في قيادة محور المقاومة، وكان دوره في بناء هذا المحور الذي ضم إيران وسورية وحزب الله والفصائل الفلسطينية والعراقية واليمنية، أساسيًا لمواجهة "إسرائيل" والمشاريع الأميركية الرامية لإخضاع شعوب المنطقة. وسيبقى هذا الدور محفوظًا في قلوب الأوفياء، وسيُلهم الكثيرين للاستمرار في هذا الخط الرسالي الذي حقق انتصارات كبرى.