نقاط على الحروف

من الطبيعيّ جدًّا أن يخصّص سمير جعجع حديثًا عن ٧ أكتوبر، وأن يصدر حزبه بيانًا بالمناسبة، ففي زمان صار فيه متاحًا لأيّ جاهل أن يناقش العلماء في نظريات الفيزياء وأن يعطي للدول الكبرى نصائح في استخدام الطاقة النووية وأن يمنحنا كجمهور، حين يجد لذلك وقتًا، رأيه في ثقافات الشعوب أو تقييمه لعمل فنّي أو ثقافيّ، وبالطبع من دون أن يقصّر في تصنيع وتصدير وجهات النظر المتعدّدة المستويات حول الإستراتيجيات العسكرية والأنظمة الاقتصادية في العالم، لم يعد مستهجنًا أن نرى فيوضات واستفاضات في الشؤون الإقليمية، تصدر عن وجوه قواتيّة لم تغتسل بعد من غبار حاجز البربارة ونقاط الذبح على الهوية، عن وجوه لم تزل عالقة خلف "طلّاقات" القنص في الأزقة والزواريب.
وجد سمير جعجع في الذكرى الثانية لطوفان الأقصى مناسبة للحديث وللتعبير عن نفسه وإبداء رأيه في شأن إقليميّ بل عالميّ، بعد أن استوطنه وهم يقول بأنّه عامل مؤثر في المنطقة، إذ اختلطت عليه الأمور بين أن يكون ذائع الصيت خلف الحدود كقاتل ومرتكب للمجازر، معفيّ عنه، وبين أن يكون زعيمًا يعتلي المنابر ويحدّث في ما خلف حدود معراب، تمامًا كالعارض الذي ألمّ بالمدعو شارل جبور إذ بدا أنّه ينظر في مرآة مكبّرة إلى حدّ نصح ترامب بأن يمهل لبنان ساعات معدودة لتسليم السلاح. لذا، يبدو أن الأنا المتضخمة باتت مؤشرًا طبيعيًا على الانتماء إلى القوات.
إذًا، قدّم سمير جعجع سرديته حول السابع من أكتوبر وطبعًا بالشكل والمضمون الذي يتماهى مع السردية الصهيونية حول هذا اليوم العظيم، والتي تريد حفره في التاريخ كيوم نكبة لا كيومٍ غيّر مجرى المنطقة، وأدخل الكيان المؤقّت في مسار الزوال الحتميّ، وما الجنون الصهيوني بعدها سوى دليل على حسن فهم الصهاينة لطبيعة هذا اليوم، ولحقيقة كونه بوابة عبور "إسرائيل" إلى مربع الوجود المهدّد. ولأن السردية الصهيونية تقوم على الترويج لهزيمة المحور، ولعودة شعار "العين لا تقاوم المخرز" أحبّ جعجع أن ينتهز الفرصة ليضيف إليها بعضًا من روحه ومن رغباته الباطنة، فوجّه تهديدًا مبطّنًا إلى المقاومة في لبنان، إذ توعّدها بمصير كمصير حماس إن هي لم تسلّم سلاحها وتستسلم. غاب عن ذهن جعجع أن حركة حماس وسائر الفصائل المقاومة في غزّة لم تزل، رغم عامين من حرب الإبادة، تقاتل وتذلّ الجنود الصهاينة الذين دخلوها عموديًا ويعودون في كلّ يوم أفقيًا. بكلام آخر، يبطّن جعجع التهديد، الذي ورد على ألسنة عبرية من مختلف المستويات، بالترويج لهزيمة المقاومة وانفراط عقد محورها. ومع أنّه يقرّ بعجزه عن فهم السابع من أكتوبر ومعركة الإسناد من لبنان، وهو إقرار يُحسب له، يصرّ على إبداء رأيه في شأن لا يفهمه، ولا يعي معانيه ومنطلقاته ودلالاته.
بالخلاصة، حاول جعجع الاستفادة من المناسبة لتوجيه رسالة إلى حزب الله، فحواها أن ليس أمام الحزب سوى تسليم سلاحه. نسي أن يضيف عليها "ماذا وإلّا..". ثمّ يُتبعها بتهديد آخر، كأن ستأتي أسراب الطيران الحربي لتقصف كلّ ما يمتّ إلى المقاومة بصلة، أو ستعود "إسرائيل" وتجتاح لبنان. وربّما لم يشأ تحميل "إسرائيل" ثقلًا عجزت عن حمله سابقًا.
في السياق، كانت القوات اللبنانية قد أصدرت بيانًا سبق حديث جعجع، حول الموضوع نفسه، اعتبرت فيه أنّ السابع من أكتوبر كان بداية نهاية محور المقاومة وإشارة انتهائه. ومن هذا المنطلق، قامت بتمجيد الإبادة التي ترتكبها "إسرائيل" منذ عامين إذ اعتبرتها الوسيلة التي تؤدي حتمًا إلى عصر خالٍ من محور المقاومة. وربّما، في قرارة نفس محرّر البيان، هي وسيلة لعودة احتمال أن يصبح لبنان كيانًا "إسرائيليًا" يتولّى فيه جعجعهم منصب رئاسة الجمهورية.
ختامًا، وجدت قناة "العربية" في سمير جعجع شخصية تجيد من دون جهد مقاربة موضوع السابع من أكتوبر من وجهة النظر المعادية بالشكل الأوضح لخطّ المقاومة، وما خاب أملها، إذ أبدع الرجل في تقديم الصورة كما يشاء لها الصهاينة أن تُظهّر، وأكثر.