نقاط على الحروف

رئيس الحكومة اللبنانية نواف سلام غائب عن الوعي بكل ما لكلمة "الوعي" من معانٍ وتفسيرات.، وهذا ليس مستغرباً إذا ما تعلّق الأمر برجل -يُفترض به أن يكون مسؤولاً عن إدارة مؤسسات الدولة التنفيذية ومتابعة شؤون الناس التي تخدمها هذه المؤسسات- يحبس نفسه داخل غرفة مرايا ضيقة ومغلقة لا يرى فيها إلا نفسه، ولا يمكن لبصره فيها أن يجتاز حدود المربّع الذي رسمه لنفسه باستعجال دائم وتوتّر مستمر وعنجهية غير مبرّرة ولا تمت لصنف الرجال المسؤولين، الذين يخرجون من بوتقة ذواتهم باتجاه الدوائر الأوسع التي تتيح لهم إرخاء ظلّ عباءتهم لتسع الوطن كلّه بملفاته الملحّة وقضاياه المصيرية.
ليس صدفةً أن يعمد العدو الصهيوني إلى تصعيد عدوانه على لبنان في كل مرّة تعقد فيها حكومة سلام اجتماعاً لها، خصوصاً إذا كان على جدول أعمالها بنود تستهدف المقاومة وبيئتها ومؤسساتها -وآخرها سحب ترخيص الجمعية اللبنانية للفنون (رسالات) واستكمال النظر في تداعيات أزمة صخرة الروشة- سواء من خلال استباحة شاملة للسماء اللبنانية بالمسيّرات المذخّرة وطائرات الاستطلاع والطائرات الحربية أو باستهداف السيارات والدراجات النارية المدنية، ليضيف إلى سجلّه الأسود جرائم جديدة، وهذا ما حصل حيث استباحت الغارات "الإسرائيلية" الأرض اللبنانية في جرود حربتا والهرمل فيما اغتالت جريح البيجر المهندس حسن عطوي وزوجته زينب رسلان في بلدة زبدين بصاروخ مسيّرة غادر.
يجري ذلك في ظل غياب كامل لنواف سلام عن المشهد سوى انشغاله بافتعال المشاكل الداخلية وتصويرها على أنها استهداف لشخصه، فيما يتولى وزراء اليمين ابتداع قرارات "همايونية" تضرب القوانين اللبنانية في الصميم لتكرّس سياسة متسلّطة لا تختلف عن أنظمة الديكتاتوريات البائدة، وهذه القرارات الآتية بإيعاز أميركي مباشر موجهّة حصراً لضرب المقاومة وبيئتها، وكأن لبنان بمن وما فيه أصبح ساحة مفتوحة لجولات وصولات الرجل غير عابئ بالارتدادات السلبية لما يقدم عليه وتأثيره على الاستقرار الداخلي والسلم الأهلي في وقت يقترب لبنان يوماً بعد يوم من الدخول في دوّامة العواصف الإقليمية والدولية بفعل السياسات الأميركية الرعناء والتغوّل "الإسرائيلي" اللامحدود.
منذ جلستي الحكومة الشهيرتين في 5 و7 أيار الماضي، اللتين أقرّتا ورقة الإملاءات الأميركية القاضية بنزع سلاح المقاومة بذريعة حصرية السلاح في يد الدولة اللبنانية، ونواف سلام يفتش في أوراقه عن أي مسعىً يأخذ البلد إلى التشرذم والفرقة وإشاعة أجواء الاهتزاز الداخلي وإدامة حالة عدم الاستقرار فيما تمعن "إسرائيل" في المقابل بتكثيف اعتداءاتها ورفع سقف تهديداتها دون أن تبادر هذه الحكومة والدولة عموماً إلى اتخاذ أي إجراء يلجم الجموح الأميركي-الصهيوني في استباحة لبنان، لا بل يصرّ سلام على تعرية لبنان من عوامل قوته ومقوّمات صموده باستهداف شريحة أساسية قدّمت التضحيات الجسام من الأرواح والممتلكات وما تزال في سبيل تحرير الأرض المحتلة وحماية البلد من أي عدوان أو خطر يتهدّدها.
إن ما يقوم به نواف سلام لا يستقيم في أي ميزان وطني استقلالي حقيقي، فهو وبعض وزرائه من فلول اليمين الانعزالي يمعنون في زرع بذور الخطاب الطائفي البغيض الذي رفضه اللبنانيون وأسقطوه من خلال اتفاق الطائف، ويبالغون في محاولة تكريس انقسام عمودي يعيد لبنان إلى مرحلة ما قبل الحرب الأهلية حين سعت واشنطن و"تل أبيب" إلى تحضير البلد للسقوط بذريعة نزع السلاح الفلسطيني، والسيناريو اليوم يتكرّر بخطوات شبيهة بأسماء مختلفة بذريعة نزع سلاح المقاومة.
إلا أن الاختلاف الجوهري في واقع الأزمة بين الأمس واليوم يتمثّل في وجود مقاومة متجذّرة في أصولها اللبنانية عصيّة على التغريب والتشويش، وحقّقت على مدى أكثر من قرن من المواجهة ضد الاحتلالات الإنجازات الكبرى وأهمها إفشال مشاريع الهيمنة الغربية - الأميركية في لبنان والمنطقة، وهذه المقاومة المحتضنة والمحصّنة بأبنائها وبيئتها عصيّة على الضعف والاجتثاث بفعل نقيق الضفادع التي تغذّيها السفارات، ولعلّ الموجّه الأميركي التفت إلى إخفاق جوقة الدعاية التقسيمية في التأثير فلجأ إلى محاولة رفدها بالإملاء على حكومة نواف سلام باتخاذ إجراءات تأخذ الشكل القانوني، فيما هي إمعان في خرق القوانين وكسر لهيبة الدولة في مواجهة الشعب.
يصر نواف سلام على المضي قدماً في الحركة على هامش الواقع اللبناني، فهو يمنّي نفسه باعتلاء سدة رئاسة الأمم المتحدة ما يلزمه بالانصياع للإملاءات الأميركية حتى لو جاءت إجراءاته الارتجالية على حساب مصلحة لبنان وشعبه، وحتى لو جاءت مغامراته في محاربة طواحين الهواء تصبّ في خدمة "إسرائيل" عدو لبنان المباشر، وهذا ما يطرح إشكالية الانتماء والمواطنة في ذهنية هذا الرجل، فكيف يسمح له ضميره الوطني في إشاحة النظر عمّا يرتكبه الاحتلال من جرائم بحق الناس والذهاب إلى التضييق على المقاومة بدلاً من تبنّيها ودعمها لتقوية وجوده وتثبيت حضوره في الوجدان الشعبي والمسار التاريخي!؟ وكيف يندفع في ركاب خطاب مذهبي يروّج له أعداء لبنان في الداخل!؟ ولماذا يتشبث بعناد غير مسوّغ وينساق إلى سياسة الصدام وتقديم مصالحه الذاتية على مصلحة الوطن فيما يفترض به تدعيم تماسك أركان الدولة والتعالي عن "الأنا" التي تستفحل في بنية شخصيته وتصرفاته وسلوكه المتوتر!؟
إن ما يقوم به نواف سلام من تعقيد للأزمة اللبنانية بقراراته وإجراءاته الاعتباطية لا يقدّم بأي حال من الأحوال خدمة للبنان، بل يسهم في زعزعة التماسك الداخلي في وقت أن البلد بأمس الحاجة إلى الالتقاء والحوار ونبذ الخلافات في سبيل صياغة استراتيجية أمن وطني ومعادلة دفاع يتلاحم فيها الجيش والشعب والمقاومة لمواجهة المخاطر الداهمة وسط عالم متفجّر، والأجدر به الارتقاء إلى مصاف الرجالات المسؤولة التي تأخذ على عاتقها لمّ الشمل ونزع التناقضات وجمع الأطراف بدل التلهّي بقضايا سطحية هامشية، وهذا لا يكون إلا بالتخلّي عن سمة التحدّي والشخصانية في مقاربة القضايا المصيرية، فلبنان مهدّد بالقضم من قبل الاحتلال والأوضاع الاقتصادية إلى تدهور فيما تتجّه المنطقة والعالم إلى مآلات تنبئ بالخراب والحروب، والأجدى له أن يكتبه التاريخ بطلاً بدلاً من أن يكون عدواً لوطنه.
يقال إن امبراطور الروم نيرون خليفة كاليغولا الماجن، كان متعطّشاً للرئاسة حتى خان أمّه وقتل معاونيه واغتال منافسيه ليصل إلى السلطة والحكم، وأرسل رجاله لإحراق روما والآلاف من أبنائها وقاطنيها ليعيد بناءها كما خيّل له في المنام، واعتلى شرفة برجه العالي ليستمتع بمشهد الحريق ويغني أشعار هوميروس، وحين واجه انتفاضة الشعب اعتنق اليهودية وألصق التهمة بالمسيحيين وبدأ بالتنكيل بهم وتشريدهم وتدمير كنائسهم حتى قضى منتحراً.. وهكذا تكون نهاية الظالمين.