مقالات

تبدو الخطوة الأخيرة التي أقدمت عليها دول البريكس بتسوية جزء من تجارتها البينية بالعملات المحلية، حدثًا رمزيًا وسياسيًا يتجاوز طابعه الاقتصادي المباشر. فحين تدفع الصين ثمن الصويا الذي باتت تشتريه من البرازيل عوض الولايات المتحدة باليوان الصيني، وحين باتت الهند تسدد لروسيا مستورداتها النفطية بالروبية الهندية، فإن الامر يتعدى البعد الاقتصادي ليأخذ بعدًا جيوسياسيًّا. هذا يعني أن الحديث عن تخلي البريكس عن الدولار لم يعد مجرد شعار يرفع؛ بغية ردع الولايات المتحدة عن بعض سياساتها العدائية تجاه الدول الأعضاء في المنظمة، بل بات سياسة عملية منتهجة من قبل دول البريكس، ما يهدد بكسر هيمنة الدولار الأميركي على التعاملات التجارية الدولية لأول مرة منذ الحرب العالمية الثانية.
وبحسب تقارير اقتصادية دولية، فإن الاتفاقات الأخيرة بين الصين والبرازيل في مجال الحبوب، والهند وروسيا في مجال الطاقة، تمثل مؤشرًا قويًّا على أن العالم بدأ يتخلى تدريجيًّا عن هيمنة الدولار على التجارة الدولية، وهو ما يعد أيضًا مؤشرًا على تسارع وتيرة الانتقال من نظام أحادي القطبية إلى نظام متعدد الأقطاب تتوزع فيه مراكزُ متعددةُ النفوذ المالي والسلعي.
والجدير ذكره، أن الهند دفعت نحو 1.5 لاك كرو روبية، وهو ما يعادل 18 مليار دولار، لروسيا مقابل واردات نفطية خارج منظومة الدولار، وهو ما وفر للهند قرابة سبعة مليارات دولار إذا أخذنا بالاعتبار فروقات سعر الصرف. أما الصين فقد دفعت 80 مليار دولار للبرازيل مقابل كميات كبيرة من الصويا سدَّدتها باليوان الصيني، وهو ما يعد أكبر عملية تجارية دولية تُجرى بعملة بديلة عن الدولار الأميركي، وهذا يجعلنا نستنتج أن ما يجري يشكل نهجًا باتت تعتمده دول البريكس، لا مجرد حدث عابر.
يرى مراقبون، أن هذه الخطوة تأتي في سياق تراكم الضغوط الغربية، لا سيما الأميركية، على اقتصادات البريكس منذ اندلاع الحرب الأوكرانية، ومحاولات واشنطن استخدام الدولار كسلاح جيوسياسي عبر سياسة العقوبات التي تنتهجها ضد خصومها. والجدير ذكره، أن الولايات المتحدة قامت بفرض عقوبات إضافية على موسكو من ضمنها عقوبات مصرفية قاسية، إضافة إلى رسوم جمركية بنسبة 50 بالمئة على الهند نتيجة مواصلتها عمليات استيراد النفط الروسي بأسعار تفضيلية. لكن هذا دفع بالهند إلى تعزيز تعاونها الاقتصادي مع روسيا ليشمل مجالات جديدة من ضمنها القطاع الزراعي والأسمدة والصناعات الغذائية، بل وإلى ترميم علاقاتها مع الصين بعد خمسة أعوام من التوتر بين نيودلهي وبكين.
بالتالي، فإن الاعتماد على العملات المحلية لا يشكل بالنسبة للبريكس مجرد خيار اقتصادي، بل بات يشكل إستراتيجيةً مقاوِمةً لضغوط العقوبات الأميركية، ومحاولة لضمان استقلاليتها في ما يتعلق بالقرار المالي، ما يضمن حصانة عالم الجنوب بشكل عام في مواجهة الغرب الرأسمالي.
وتكمن أهمية هذه الخطوة في كونها تأتي في ظل لحظة دولية حاسمة حيث تتصاعد المواجهة الجيوسياسية بين الشرق والغرب، سواء في أوكرانيا أو في شرق آسيا. من هنا فإن الصين؛ الدولة الاقتصادية الرائدة في العالم، والتي باتت في المرتبة الثانية اقتصاديًّا بعد الولايات المتحدة، تسعى لترسيخ اليوان كعملة تداول عالمية، بما يعزز قدرتها على التحول بالعالم من عالم أحادي القطبية تحت الهيمنة الأميركية، إلى عالم متعدد الأقطاب. أما روسيا، فهي ترى في هذا التطور وسيلة للالتفاف على منظومة "سويفت" الغربية في وقت تقوم بإعادة توجيه تجارتها من أوروبا نحو شرق آسيا ونحو عالم الجنوب.
ويحظى هذا التوجه بدعم من دول عالم الجنوب، إذ بدأت دول أفريقية وأميركية لاتينية وآسيوية باعتماد سياسات تستند إلى التداول بالعملات المحلية أو باليوان الصيني في تجارتها البينية. والجدير ذكره أن البريكس تقوم ببناء نظام مالي موازٍ للنظام الذي رسخته اتفاقات بروتون وودز في العام 1944، والتي أطلقت ديناميات أفضت إلى هيمنة الدولار الأميركي عبر البنك الدولي وصندوق النقد الدولي.
هذا يكشف تآكل الثقة العالمية بالريادة الاقتصادية الأميركية، وتزايد الوعي بضرورة تنويع مراكز القرار المالي الدولي في نظام متعدد الأقطاب تلعب فيه مراكز عدة دورًا رئيسًا، ومن ضمنها بكين ونيودلهي وموسكو، إلى جانب نيويورك.
وفي حين يرى بعض المراقبين أن من شأن كسر هيمنة الدولار إحداث حالة لا استقرار في الأسواق العالمية ط، فإن آخرين مرتبطين بالاقتصادات الأوراسية يرون فيه تصحيحًا لتشوه اقتصادي ترسخ في العالم منذ الحرب العالمية الثانية عبر اتفاقات بروتون وودز التي رسخت الهيمنة المالية الأميركية، ما أحدث حالة انعدام في عدالة التنمية لصالح المجتمعات الغربية على حساب اقتصادات العالم غير الغربي وخصوصًا عالم الجنوب.