نقاط على الحروف

كانت قبيلة نُمير مدعاة فخرٍ لأبنائها، إلى أن قرر الراعي النُميري شعرًا تحكيميًا بأنّ الفرزدق أهجى من جرير، فدخل جرير مجلسهما وأنشد قصيدته البائية الشهيرة بالدامغة، وما إن وصل إلى أشهر أبياتها،" غضَّ الطرف إنّك من نُميرٍ.. فلا كعبًا بلغت ولا كلابا"، حتى أخفى الراعي النميري وجهه بعبائته مغادرًا المجلس، وما إن وصل ورهطه مشارف قبيلة نُمير، حتى لاقتهم النساء بالتأنيب والتعزير" قبّح الله وجوهكم كما قبحتم وجوهنا"، فظل الراعي صامتًا حتى مات كمدًا.
لم يعد بعدها نُميريٌ يستطيع رفع رأسه، وحين كان يُسأل أيّ فردٍ من نُميرٍ عن قبيلته، كان يقول على استحياءٍ شديدٍ: "من نُمير"، بترقيق الحروف، بعد أن كانوا يقولون من نُمير بتفخيمها. ولكن يُحمدّ لقبيلة نُمير خجلها وشعورها بثلمة الشرف دليلًا على أنّ لديها كثيرًا من الحياء ودم الوجه.
هذا بخلاف عرب اليوم، والذين تثلّم شرفهم مئتين وخمسين ألف مرة في غزة، بعدد الشهداء والجرحى والمفقودين، وتثلّم آلاف المرات في لبنان بعدد الشهداء والجرحى، ومئات المرات في اليمن ومثلها في إيران.. وما يزال شرفهم يتثلّم على مدار الثواني، وما يزال نتنياهو وكيانه يدوس أنوفهم، من دون أن تتسرب قطرة دمٍ واحدة إلى وجوههم، بل ينشغلون بالتفتيش في كل مدرٍ ووبر، عن مسوغاتٍ لإيلام الضحية ولومها.
حتى إنّ الأوروبيين الذين غصَّت عواصمهم وشوارعهم بالتظاهرات مقابل الصمت المريب في عواصم العرب، هالهم هذا التبلد، فأصبحوا يتساءلون أين العرب؟ وكأنّ الفلسطينيين واللبنانيين لم يسألوا هذا السؤال المزمن منذ النكبة حتى ملّوا، وحين ملّوا وجدوا الإجابة أخيرًا، فعرفوا أينّهم، يقفون خلفهم بخناجر الظهر.
لم يكتفّ العرب بالصمت والتواطؤ والعار المخجل، ولم يُسارعوا كالراعي النُميري بتنقيب وجوههم، لقد راحوا يتأستدون على السابع من تشرين/أكتوبر ومعارك الإسناد. إذ إن السنوار لم يكن يدرك الواقع الاستراتيجي، و"الضيف" كان عسكريًا لا يفهم الواقع الجيوسياسي، وحماس كانت قاصرةً عن الإحاطة بموازين القوى والتغيرات الدولية، و"السيد الأسمى" تورَّط وورَّط لبنان جبرًا وغصبًا، والسيد عبد الملك تمادى في توريط اليمنيين من دون مراعاة مصالحهم.
هذه الجمهرة من العرب والأعراب، لم يتبقّ لهم من قولٍ يقولونه، سوى أنّ من خاض عين جالوت الحاضر- أي "طوفان الأقصى"- كان عليه دقّ أبوابنا واستشارتنا فردًا فردًا، على الأقل لو تعذّر عليهم طرق أبوابنا، بيتًا بيتًا، فرسالة "ماسنجر" أو "واتساب" كانت ستؤدي الغرض، وسنهيل عليهم نصائح الحكمة والحنكة، وطبعًا على قاعدة قول المتنبي: "يرى الجبناءُ أنّ العجزَ عقلٌ.. وتلك خديعة الطبّع اللئيمِ"
هؤلاء الواعون المدركون المحيطون الفاهمون، يقيسون الأمور من بُعد، ما تحت أنوفهم، حتى قبل انتظار نتائج الحرب. وهذا مقتل الموضوعية، فالحروب بنتائجها لا بمنتصفاتها ومجاريها، كما أنّهم يعانون هلعًا مرضيًّا، في قياس الطوفان بحجم تضحياته، وكأنّك تريد اختراع العجلة، حين تحاول إقناعهم أنّ ركوب العار (الاستسلام) لا يُنجي من الإبادة، بل ستحصل على كليهما، وأن تمسكك بالعزّ في سبيل الوطن، ستحصل على كليهما.
لكنهم في الوقت الذي يأخذون على صانّعي الطوفان ومسانديه في لبنان واليمن أنّهم دمّروا بلدانهم وشعوبهم، يأخذون على إيران أنّها لم تدمّر شعبها ومقدراتها، فلم تدخل حرب الإسناد عسكريًا، وحين اعتدي عليها فرَدَّت الصّاع صاعين، قبلت وقف إطلاق النار، ولم تُكمل حلقة الدمار التي يلوكونها ليل نهار عن الطوفان ومسانديه.
في الحقيقة؛ أنّه ليس من السهل مجاراة كل تناقضاتهم الفاقعة، وعوارهم في الرؤية الواقعية لمسارات الطوفان وتأثيراته ومآلاته، ويتجاهلون عن قصدٍ أو جهلٍ خسائر العدو المريعة وغير المسبوقة، خسائر على المستويات كلها، وأخطرها خساراته العسكرية أولاً، وخساراته الأخلاقية والسياسية ثانيًا.
قد يحاجج البعض بأنّ خسارات العتاد،و الذي فقد نصفه بريًا منذ بدء الطوفان، قابلّ للتعويض العاجل بوجود الدعم المطلق من أمريكا.. ولكن كيف سيعوّض مئة ألف جنديٍ، حيّدوا عن حساباتهم؟ بين قتيلٍ وجريحٍ ومعاق نفسيًا أو ذهنيًا أو على شفير الانتحار، ومن أين ستأتي لجيشٍ موحلٍ، أمام سلاحٍ بدائيٍ، بمعنوياتٍ لخوض حروب "إسرائيل الكبرى"؟ فقد قال زامير إنّ الجيش بحاجةٍ إلى ثلاث سنوات لإعادة التنظيم والبناء، حتى يستعيد قدرته، والحقيقة أنّها ليست أقل من عقد.
أمّا على المستوى السياسي والأخلاقي، فخسارته لا تُقدَّر بثمن، فقد خسر روايته، وهي أصل وجوده وصيرورة بقائه.. تلك المظلومية الكاذبة التي ظلّ يتغذى عليها عشرات السنين، وتضفي عليه مشروعية البقاء، وهذه خسارة غير قابلةٍ للتعويض أو للاستدراك، مهما حاول نتنياهو رشوة المؤثرين والناشطين، حين أصبحت كل خطوةٍ للاستدراك تتحول إلى فضيحةِ جديدة.
لذلك؛ فالعدو بكيانه المؤقت يدرك أنّ الطوفان وضعه على حافة الزوال، وأثار أقسى وأقصى هواجسه عن إمكان الوجود والبقاء. وقد تيّقن أنّ خساراته لا يمكن استدراكها على المستويات كلها، عسكريًا وسياسيًا و"اجتماعيًا" وأخلاقيًا وإعلاميًا وقانونيًا، إلّا إذا استسلمت غزة بشعبها وفصائلها بحماسها وجهادها وجبهاتها، لذلك سعى عبر "مبادرة ترمب" لتحقيق أمنياته على طاولة التفاوض، والتي عجز عن تحقيقها في الميدان.
لذلك؛ على المهزومين قبل أن يولدوا، اقتفاء أثرّ الراعي النُميري على الأقل، بتنقيب وجوههم والانسحاب على استحياء، والصمت حتى الموت كمدًا، لأنّ ثُلمة الشرف التي وَصَمَتْهُم منذ بدء الطوفان، وما تزال تقبّح وجوههم، لا يصح معها إلّا أن نقول لهم: غُضَّ الطرف إنّك عربيٌ.. فلا لبنانًا ولا يمنًا بلغت ولا إيرانا.. وتخفيفًا حتى لا نُجْمل ومن باب الأمل الدفين، في خيرٍ ولو بعد حين، "غضّ الطرف إنّك في عاصمةٍ عربية....".