مقالات
 
            بعد إعلان تعيينه مبعوثًا خاصًا للرئيس الأميركي دونالد ترامب إلى العراق، أطلق مارك سافايا تصريحات إعلامية قال فيها إن مهمته "تتركز على إعادة بناء الثقة وتعزيز الشراكة الإستراتيجية بين بغداد وواشنطن، وأن العلاقة بين البلدين تمرّ بمرحلة تتطلب تواصلًا مباشرًا وصادقًا يخدم مصالح الشعبين".
وزعم سافايا "أن الولايات المتحدة لا تسعى إلى فرض أجندة على العراق، بل إلى دعم حكومة مستقلة قادرة على اتّخاذ قراراتها السيادية"، وأن هدفه يتمثل بـ"العمل مع كلّ الأطراف العراقية - السياسية والدينية والاقتصادية - لضمان عراقٍ مستقر ومزدهر يمكنه أن يكون شريكًا حقيقيًا للولايات المتحدة، بعيدًا عن الصراعات الإقليمية".
لم يأت سافايا، المسيحيى الكلداني، ذو الأصول العراقية، بجديد، إذ إن هذا الكلام، كثيرًا ما ردّده الحاكم المدني الأميركي للعراق، بول بريمر، بعد الإطاحة بنظام حزب "البعث" في عام 2003، وكثيرًا ما ردّده أيضًا المبعوث الأميركي الخاص السابق، بريت ماكورك، فضلًا عن العديد من كبار الساسة الأميركيين في الإدارة الحالية والإدارات السابقة.
وإذا لم يكن هناك جديد في تصريحات المبعوث الأميركي الجديد للعراق، فإن الجديد يرتبط بالتوقيت، وبهوية وخلفية من وقع الاختيار عليه، والأولويات المطلوب منه العمل عليها، أو التي حددها أو سوف يحددها هو بنفسه.
فمن حيث التوقيت، جاء تعيين رجل الاقتصاد المشهور بتصنيع العقاقير المخدرة (القنّب الطبي)، من خلال امتلاكه سلسلة متاجر (Leaf & bud)، بعد وقت قصير من إشارات سلبية للرئيس ترامب عن العراق، أطلقها في كلمة له بقمة شرم الشيخ المصرية، منتصف شهر تشرين الأول/أكتوبر الجاري، وبحضور رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني، إذ قال ترامب "إن العراق بلد يمتلك الكثير من النفط، لديهم كميات هائلة لدرجة أنهم لا يعرفون ماذا يفعلون به، وهذا بحد ذاته مشكلة كبيرة، عندما تملك الكثير ولا تعرف كيف تتصرف به".
وأغلب الظن أن هناك ترابطًا بين ما صرح به ترامب، وبين خطوة تعيينه مبعوثًا خاصًا له، بعيدًا عن السياقات والتراتبية الوظيفية التي تبدأ من السفير والسفارة إلى وزارة الخارجية، ثمّ إلى البيت الأبيض، من دون أن يصل كلّ شيء إلى ترامب الرئيس ليبت به ويقرر بشأنه. ولا شك أن هذه سياقات روتينية بيروقراطية، لا تنتج قرارات سريعة، ولا سياسات واضحة، ولا إجراءات عملية على الأرض.
وبنظرة أوسع، جاءت هذه الخطوة بعد بضعة أسابيع من سحب الولايات المتحدة لبعض قواتها من قواعد عسكرية في بغداد والأنبار، علمًا أن المتحدث باسم وزارة الحرب الأميركية (البنتاغون)، شون بارنيل، صرّح مطلع الشهر الجاري، بأن "تقليص القوات سيتم وفق توجيهات الرئيس، وانسجامًا مع عمل اللجنة العسكرية العليا الأميركية - العراقية، والبيان المشترك الصادر في السابع والعشرين من أيلول/سبتمبر 2024، وأن هذه الخطوة تمثل انتقالًا نحو شراكة أمنية دائمة بين الولايات المتحدة والعراق، بما يتماشى مع المصالح الوطنية الأميركية والدستور العراقي واتفاقية الإطار الإستراتيجي بين البلدين"، معتبرًا "أن الشراكة الجديدة ستسهم في دعم الأمن الأميركي والعراقي، وتعزيز قدرة العراق على تحقيق التنمية الاقتصادية وجذب الاستثمارات الأجنبية والاضطلاع بدور قيادي إقليمي".
وما هو مؤكد أنه من المستبعد جدًا أن تقوم الولايات المتحدة بتقليص أو إجلاء قواتها من العراق دون أن توفر بدائل تضمن لها وجودًا فعالًا ومؤثرًا، في ذات الوقت الذي يكون ذلك الوجود أقل استفزازًا للعراقيين، وربما يكون الاقتصاد بعنوانه الواسع هو البديل والخيار الأفضل والأنجع بالنسبة لها، لا سيما وأن رؤية ترامب "التاجر"، تقوم على مبدأ تقليل الإنفاق على الحروب وعلى أمن أصدقاء وحلفاء الولايات المتحدة، في مقابل زيادة العوائد والواردات، أو "فرض النفوذ من خلال المال لا عبر القوّة".
واضح أن الإدارة الأميركية راحت تمهد الأرضيات وتوفر الظروف الملائمة للشركات الأميركية في شتّى الجوانب والمجالات، وخصوصًا تلك المعنية بصناعة النفط، والتسليح، والأمن، والتكنولوجيا الرقمية للدخول إلى السوق العراقية بقوة.
وطبيعي أن حضور الشركات الأميركية في ميدان الاقتصاد العراقي، يعني التحكم بجزء من الرساميل العراقية من جانب، والإحاطة بالكثير من البيانات ذات الطابع الأمني عن المؤسسات الحكومية وغير الحكومية العراقية، خصوصًا وأن تلك الشركات ستعتمد على شركات أمنية أجنبية -وأغلبها أميركية- لتوفير الحماية المطلوبة لمقراتها ومواردها وكوادرها، من جانب آخر. والمعروف أن أغلب الشركات الأمنية، إن لم يكن جميعها، مرتبطة بشكل أو بآخر بأجهزة استخباراتية أميركية، وربما "إسرائيلية" أيضًا.
وقد لا ينفصل تعيين مارك سافايا مبعوثًا خاصًا للعراق، عن طبيعة تعاطي ترامب مع مجمل الملفات الإقليمية، وسعيه المحموم لإخضاع بعض الأطراف، وتحييد أطراف أخرى، أو بتعبير آخر العمل على تفكيك وتقسيم وإضعاف قوى محور المقاومة، ومن بينها تلك الموجودة في العراق، من خلال العمل على نزع سلاحها وإبعادها عن إيران.
وارتباطًا بطبيعة التوقيتات وجوهر الأهداف، فإن اختيار شخص مثل سافايا، ينحدر من أصول عراقية، ويجيد اللغة العربية، ويمتلك اطلاعًا جيدًا على الثقافة المجتمعية المحلية، سيتيح له التواصل المرن مع مختلف الأطراف والمكونات، بلا حواجز ودون الحاجة إلى وسطاء ومترجمين، فضلًا عن ذلك فإن ديانته المسيحية - الكلدانية، ربما تشجع بعض الأقليات المجتمعية على التفاعل والتجاوب معه بدرجة كبيرة، خصوصًا وأنه قد يناغم الجو السياسي والشعبي العام من خلال تركيزه على الاقتصاد لمعالجة المشكلات الكبرى المرتبطة بالاحتياجات الأساسية للمجتمع، والنهوض بالصناعة والزراعة وجوانب التنمية الأخرى.
ومن بوابة الاقتصاد والتنمية ومعالجة المشكلات الكبرى، والتي هي تفسير وتفكيك لمقولة ترامب إن (العراقيين لا يعرفون كيفية الاستفادة من أموال النفط الهائلة)، فإنه بالتالي لا بد من وجود من يعلّمهم، سيدخل سافايا إلى قلب العملية السياسية، ليكون الاختبار الأول له هو الدفع نحو تشكيل حكومة عراقية جديدة على ضوء نتائج ومخرجات انتخابات الحادي عشر من تشرين الثاني/نوفمبر المقبل وفق مقاسات ومصالح واشنطن أولًا وأخيرًا، ولكن هل سينجح سافايا العراقي - الأميركي بذلك الاختبار؟.
وإذا كان من المبكر الإجابة عن هذا التساؤل، فإنه من المؤكد ألا يكون طريقه معبّدًا وسالكًا لتحقيق ذلك الهدف.
 
             
                                             
                         
                     
                     
                     
                         
                         
                        