اهلا وسهلا...
موقع العهد الاخباري

كانت البداية في 18 حزيران/ يونيو 1984 في جريدة اسبوعية باسم العهد، ومن ثم في 5 تشرين الثاني/ نوفمبر 1999 أطلقت النسخة الاولى من جريدة العهد على الانترنت إلى ان أصبحت اليوم موقعاً إخبارياً يومياً سياسياً شاملاً

للتواصل: [email protected]
00961555712

المقال التالي مسؤولة أممية سابقة: "إسرائيل" أبادت 4 آلاف جنين بغزّة في لحظة واحدة

مقالات

من جيش صغير وذكي إلى جيش الأمة: قلق التآكل الإستراتيجي 
مقالات

من جيش صغير وذكي إلى جيش الأمة: قلق التآكل الإستراتيجي 

83

حين يعلن رئيس وزراء العدو بنيامين نتنياهو، أنّ "إسرائيل لم تغيّر الشرق الأوسط فحسب، بل غيّرت ذاتها أيضًا"، وأنّ جيشها انتقل من "مرحلة الاحتواء إلى نهج المبادرة الدائمة"، فهو لا يكتفي بوصف واقعٍ عسكريّ أو سياسي، بل يسعى إلى صياغة رواية وجودية جديدة تعيد تثبيت صورة الكيان الذي يجد نفسه اليوم أمام اختبارٍ بنيوي حقيقي يتعلق بقدرته على الحفاظ على تفوقه التاريخي.

هذا التحول الخطابي من نمط “الجولات المحدودة” إلى فلسفة “الحرب المستمرة” لا ينطلق من فائض قوة، بل من تراكم تجارب قاسية خلال العقدين الماضيين. فمن حرب 2006 في لبنان، إلى جولات غزة المتكررة، مرورًا بتنامي قدرات محور المقاومة وتطور البيئة الإقليمية بقيادة إيران، أدركت "إسرائيل" تدريجيًا أن الحروب التي خاضتها لم توفر لها حسمًا عسكريًا ولا استقرارًا إستراتيجيًا. بل انتهى الأمر غالبًا بنتائج معاكسة: قوى مقاومة أكثر تنظيمًا وتسليحًا وثقة، في مقابل مجتمعٍ "إسرائيلي" أعدّته قيادته لتحمل الخسائر، لكنه لم يختبر بعد تجربة صواريخ طويلة ومتواصلة على مراكز ثقله الحيوية، سوى بشكل نسبي.

وما إن ازدادت مؤشرات العجز عن تحصين الجبهة الداخلية في مواجهة إيران، وقبلها بعدما نهضت المقاومة الإسلامية من الضربات التي تعرضت لها، حتى أصبح أكثر تقبلاً لوقف الحرب، رغم إدراكه أنها ستكون دون الحسم، ما يكشف حدّ المخاوف الكامنة.

في هذا السياق، تأتي دعوة نتنياهو إلى إعادة بناء “جيش كبير واحتياط موسع” كخطوة تتناقض مع خطاب يدّعي أنه خرج “منتصرًا”. فلو كانت "إسرائيل" قد حسمت بالفعل، لماذا العودة إلى تعبئة جماهيرية شاملة؟ ولماذا تمديد الخدمة العسكرية؟ ولماذا التراجع عن فكرة “الجيش الذكي الصغير” إلى نموذج “جيش الأمة”؟.

الحقيقة، أن "إسرائيل" تكتشف — بوضوحٍ متزايد — أن معادلة الردع القديمة لم تعد نافذة بالمعنى الذي عرفت به. فهي اليوم تواجه خصومًا راكموا خبرات ميدانية وقدرات صاروخية دقيقة وحرب مسيّرات متقدمة، مدعومين بدولة كإيران باتت لاعبًا إقليميًا واثقًا بنفسه وأكثر حضورًا. ومن هنا، تبدو “المبادرة الدائمة” محاولة للهروب من الزمن أكثر من كونها تعبيرًا عن قوة مطلقة؛ فالتأخير يسمح للخصم بتعزيز قدراته، ويقيد هامش التفوق "الإسرائيلي".

هذا التحول ليس إعلان ثقة مطلقة بالنصر، بقدر ما هو تعبير عن إدراك أعمق لقيود القوة. "إسرائيل" تتحرك لأنها فشلت في الحسم في لبنان وإيران، ولأنها تخشى المستقبل تجعل الجيش الكبير ضرورة لإدارة حربٍ طويلة لا خيار آخر أمامها إلا التهيؤ لها.

كما يسعى نتنياهو عبر خطابه إلى إعادة ترميم الجبهة الداخلية التي اهتز يقينها في 7 تشرين الأول. فالتركيز على “وحدة الجندي وعائلته” يعكس وعيًا أنّ المواجهة المقبلة قد تتجاوز الحدود العسكرية التقليدية لتطاول الداخل والاقتصاد والهوية الوطنية نفسها.

نحن إذًا أمام انتقال من "إسرائيل" التي كانت تراهن على تفوق نوعي وتكنولوجي كاسح، إلى "إسرائيل" تُعيد صياغة نفسها كـ"دولة حرب طويلة المدى"، تخشى استنزاف الزمن وتراجع الردع. في هذا الإطار، تبدو “المبادرة الدائمة” محاولة لتجنب الانحدار وليس اندفاعًا واثقًا نحو نصرٍ وشيك، محفوف بمخاطر تآكل المناعة المجتمعية.

يبقى السؤال: هل تملك القيادة "الإسرائيلية" تصورًا واضحًا حول نتائج خيارها هذا؟ فالدخول في مسار صراع مفتوح طويل الأمد، محفوف بمتغيرات سياسية وميدانية قد تقلب المعادلات، ويطرح احتمال أن تكون "إسرائيل" قد اختارت الطريق؛ لأن البدائل ضاقت دون ضمان الوصول.

في المحصلة، رغم محاولات إضفاء طابع الانتصار على خطابها، تُدرك "إسرائيل" أن نموذج “الانتصار التقليدي” لم يعد قابلًا للتحقق، وأن استمرار دورها المهيمن يتطلب إعادة تعريف ذاتها وأدواتها وإستراتيجيتها. ومع أن المسار الذي اختارته يعكس خشية وجودية لا يمكن إخفاؤها، فإن التجربة تُظهر في المقابل قدرة محور المقاومة على التكيّف وتطوير أدوات مواجهة تلائم تحولات العدو، وهو ما يبقي الصراع مفتوحًا على احتمالات تتجاوز حسابات القوة الصلبة وحدها، تصبح فيها الكلمة الأخيرة للأصلب إرادة.

الكلمات المفتاحية
مشاركة